الرئيسية - التفاسير


* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق


{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } * { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

هذا انتقال من تمثيل إلى آخر لتعرية أحوالهم وبيان أوصافهم، والانتقال من مثل إلى آخر مألوف في القرآن الكريم، وفي كلام بلغاء العرب منظومه ومنثوره، وهو لا يأتي إلا مع قصد التأكيد على الشيء لأجل مزيد العناية به، سواء كان لقصد تحبيبه إلى النفوس وتأليفها عليه، أو لقصد تكريهه إليها وتنفيرها منه، ومن أمثلة ما ورد منه في القرآن قوله تعالى:وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور: 39 - 40]، ومن أمثلة ما ورد من ذلك في كلام العرب قول امرئ القيس:
أصاح ترى برقا أريك وميضه   كلمع اليدين في حبيٍ مكلل
يضيء سناه أو مصابيح راهب   أمال السليط بالذبال المفتل
فقوله " أو مصابيح راهب.. الخ " معطوف على التشبيه في قوله " كلمع اليدين "؛ وقول لبيد في وصف ناقته:
فلها هباب في الزمام كأنه   صهباء خف مع الجنوب جهامها
أو ملمع وسقت لأحقب لاحه   طرد الفحول وضربها وكدامها
أفتلك أم وحشية مسبوعة   خذلت وهادية الصواري قوامها
ونحوه قول ذي الرُّمَّة:
وثب المسحج من عانات معقلة   كأنه مستبان الشك أو جنب
ثم قال:
أذاك أم نمش بالوشي أكرعه   مسفع الخد غاد ناشع شبب
ثم قال:
أذاك أم خاضب بالسي مرتعه   أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب
ويجوز أن يكون العطف في مثل ذلك بأو وبغيرها كما علمت، وأصل أو لتساوي الأمرين في الشك، ثم استعملت في مطلق التسوية، وهي هنا دالة على جواز التمثيل بما سبقها وما وليها.

ولا إشكال في ورود مثلين، أو تعاقب عدة أمثال لحالة واحدة كما عرفت من الشواهد، وهذا ينبئك أن المقصود بضرب هذا المثل هو نفس الفريق الذي ضرب له المثل السابق، وهو فريق المنافقين، وهذا هو المأثور عن السلف كما سيأتي إن شاء الله، وعليه أكثر المفسرين، وقد تقدم أن الامام محمد عبده يرى أن تنوع المثلين لاختلاف المراد بكل منهما، وقد سبقه إلى مثل رأيه هذا الإِمام ابن كثير في تفسيره، ورأيهما وإن اختلف في بعض الوجوه فهو متقارب، وذلك أن ابن كثير يتفق مع الامام محمد عبده على أن أصحاب المثل الأول أسوأ حالا من أصحاب المثل الثاني، فعنده أن الفريق الأول أعمق في النفاق وأنأى عن الحق، أما الفريق الثاني فهم منافقون يترددون بين الحق والباطل، والهدى والضلال، فتارة يلمع لهم نور الايمان فيبصرون، وتارة يخبو فيبقون في ضلالهم يعمهون، وحمل على مثل ذلك مَثَلَيْ سورة النور في الذين كفروا، فخص أولهما بأولي الجهل المركب، وثانيهما بأصحاب الجهل البسيط.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8