الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }

الفاء من قوله { فقالوا ربنا } لتعقيب قولهم هذا إثر إتمام النعمة عليهم باقتراب المدن وتيسير الأسفار، والتعقيبُ في كل شيء بحسبه، فلما تمت النعمة بَطروها فحَلت بهم أسباب سلبها عنهم. ومن أكبر أسباب زوال النعمة كفرانها. قال الشيخ ابن عطاء الله الإِسكندري «من لم يشكر النَعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالِها». والأظهر عندي أن يكون هذا القول قالوه جواباً عن مواعظ أنبيائهم والصالحين منهم حين ينهونهم عن الشرك فهم يعظونهم بأن الله أنعم عليهم بتلك الرفاهية وهم يجيبون بهذا القول إفحاماً لدعاة الخير منهم على نحو قول كفار قريشاللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطِرْ علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } الأنفال 32، قبل هذا «فأعرضوا فإن الإِعراض يقتضي دعوة لشيء» ويفيدُ هذا المعنى قوة { وظلموا أنفسهم } عقب حكاية قولهم، فإنه إما معطوف على جملة { فقالوا } ، أي فأعقبوا ذلك بكفران النعمة وبالإشراك، فإن ظلم النفس أطلق كثيراً على الإشراك في القرآن وما الإشراك إلا أعظم كفران نعمة الخالق. ويجوز أن تكون جملة { وظلموا أنفسهم } في موضع الحال، والواو واو الحال، أي قالوا ذلك وقد ظلموا أنفسهم بالشرك فكان قولهم مقارناً للإِشراك. وعلى الاعتبارين فإن العقاب إنما كان مسبباً بسببين كما هو صريح قولهفأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين } سبأ 16 إلى قولهإلا الكفور } سبأ 17. فالمُسَبَّب على الكفر هو استئصالهم وهو مدلول قوله { فجعلناهم أحاديث } كما ستعرفه، والمسبب على كفران نعمةِ تقارب البلاد هو تمزيقهم كل ممزق، أي تفريقهم، فنظم الكلام جاء على طريقة اللف والنشر المشوَّش. ودرج المفسرون على أنهم دَعوا الله بذلك، ويعكر عليه أنهم لم يكونوا مقرِّين بالله فيما يظهر فإن درجنا على أنهم عرفوا الله ودعوه بهذا الدعاء لأنهم لم يقدُروا نعمته العظيمة قَدرها فسألوا الله أن تزول تلك القرى العامرة ليسيروا في الفيافي ويحملوا الأزواد من الميرة والشراب. ثم يحتمل أن يكون أصحاب هذه المقالة ممن كانوا أدركوا حالة تباعد الأسفار في بلادهم قبل أن تؤول إلى تلك الحضارة، أو ممن كانوا يسمعون أحوال الأسفار الماضية في بلادهم أو أسفار الأمم البادية فتروق لهم تلك الأحوال، وهذا من كفر النعمة الناشىء عن فساد الذوق في إدراك المنافع وأضدادها. والمباعدة بصيغة المفاعلة القائمة مقام همزة التعدية والتضعيف. فالمعنى ربنا أبعد بين أسفارنا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعَدْتَ بين المشرق والمغرب " وقرأه الجمهور { باعِد }. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { بَعِّد } بفتح الباء وتشديد العين. وقرأه يعقوب وحده { ربُّنا } بالرفع و { باعَدَ } بفتح العين وفتح الدال بصيغة الماضي على أن الجملة خبر المبتدأ.

السابقالتالي
2 3 4