الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ }

استئناف بياني لأن ما سيق من وصفهم بانحصار صفة الكذب فيهم يثير سؤال السامع أن يطلب السبب الذي بلغ بهم إلى هذا الحال الفظيع فيجاب بأنه استحواذ الشيطان عليهم وامتلاكه زمام أنفسهم يصرِّفها كيف يريد وهل يرضى الشيطان إلا بأشد الفساد والغواية. والاستحواذ الاستيلاء والغلب، وهو استفعال من حَاذ حَوذاً، إذا حاط شيئاً وصرَّفه كيف يريد. يقال حَاذ العِير إذا جمعها وسَاقَها غالباً لها. فاشتقُّوا منه استفعل للذي يستولي بتدبير ومعالجة، ولذلك لا يقال استحوذ إلا في استيلاء العاقل لأنّه يتطلب وسائل استيلاء. ومثله استولَى. والسين والتاء للمبالغة في الغلب مثلها في استجاب. والأحوذي القاهر للأمور الصعبة. وقالت عائشة «كان عمر أحْوذياً نسيج وَحْدِهِ». وكان حق استحوذ أن يقلب عينه ألفاً لأن أصلها واو متحركة إثر ساكن صحيح وهو غير اسم تعجب ولا مضاعف اللام ولا معتل اللام فحقها أن تنقل حركتها إلى الساكن الصحيح قبلها فراراً من ثقل الحركة على حرف العلة مع إمكان الاحتفاظ بتلك الحركة بنقلها إلى الحرف قبلها الخالي من الحركة فيبقى حرف العلة ساكناً سكوناً ميتاً إثر حركة فيقلب مَدّة مجانسة للحركة التي قبلها مثل يَقوم ويَبين وأَقام، فحق استحوذ أن يقال فيه استحَاذ ولكن الفصيح فيه تصحيحه على خلاف غالب بابه وهو تصحيح سماعي، وله نظائر قليلة منها استنْوَق الجمل، وأَعْول، إذ رفع صوته. وأَغْيَمَت السماء واستَغْيَل الصبيّ، إذا شرب الغَيْل وهو لبن الحامل. وقال أبو زيد التصحيح هو لغة لبعض العرب مطردة في هذا الباب كله. وحكى المفسرون أن عمر بن الخطاب قرأ { استحاذ عليهم الشيطان }. وقال الجوهري تصحيح هذا الباب كله مطرد. وقال في «التسهيل» يطرد تصحيح هذا الباب في كل فعل أهمل ثلاثيه مثل استنوق الجَمل واستتيست الشاة إذا صارت كالتيس. وتقدم الكلام على الاستحواذ عند قوله تعالىقالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } في سورة النساء 141، فضُم هذا إلى ذاك. والنسيان مراد منه لازمه وهو الإِضاعة وتركُ المنسي، لقوله تعالىكذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } طه 126. والذكر يطلق على نطق اللسان باسم أو كلام ويطلق على التذكر بالعقل. وقد يخص هذا الثاني بضم الذال وهو هنا مستعمل في صريحه وكنايته، أي مستعمل في لازمه وهو العبادة والطاعة لأن المعنى أنه أنساهم توحيد الله بكلمة الشهادة والتوجه إليه بالعبادة. والذي لا يَتذكر شيئاً لا يتوجه إلى واجباته. وجملة { أولئك حزب الشيطان } نتيجة وفذلكة لقول { استحوذ عليهم الشيطان } فإن الاستحواذ يقتضي أنه صيرهم من أتباعه. واسم الإِشارة لزيادة تمييزهم لئلا يتردد في أنهم حزب الشيطان. وجملة { ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } واقعة موقع التفرع والتسبب على جملة { أولئك حزب الشيطان } ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال فإن حزب الشيطان هم الخاسرون، ولذلك عُدل عن ذلك إلى حرف الاستفتاح تنبيهاً على أهمية مضمونها وأنه مما يحق العناية باستحضاره في الأذهان مبالغة في التحذير من الاندماج فيهم، والتلبس بمثل أحوالهم المذكورة آنفاً.

السابقالتالي
2