الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ فَإِنِ ٱنْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ }

عطف على جملةوقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } البقرة 190 وكان مقتضى الظاهر ألا تعطف هذه الجملة لأنها مبينة لما أجمل من غاية الأمر بقتال المشركين ولكنها عطفت لما وقع من الفصل بينها وبين الجملة المبيَّنة. وقد تضمنت الجمل السابقة من قولهولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } البقرة 191 إلى هنا تفصيلاً لجملة { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } لأن عموم { الذين يقاتلونكم } تنشأ عنه احتمالات في الأحوال والأزمنة والبقاع وقد انقضى بيان أحوال البقاع وأفضت التوبة الآن إلى بيان تحديد الأحوال بغاية ألا تكون فتنة. فإذا انتهت الفتنة فتلك غاية القتال، أي إن خاسوا بالعهد وخفروا الذمة في المدة التي بينكم على ترك القتال فقد أصبحتم في حل من عهدهم فلكم أن تقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أخرى من بعد يفتنونكم بها وحتى يدخلوا في الإسلام، فهذا كله معلق بالشرط المتقدم في قولهفإن قاتلوكم فاقتلوهم } البقرة 191، فإعادة فعل { وقاتلوهم } لتبنى عليه الغاية بقوله { حتى لا تكون فتنة } وبتلك الغاية حصلت المغايرة بينه وبين { وقاتلوا في سبيل الله } وهي التي باعتبارها ساغ عطفه على مثله. فــــ حتى في قوله { حتى لا تكون } إما أن تجعل للغاية مرادفة إلى، وإما أن تجعل بمعنى كي التعليلية وهما متلازمان لأن القتال لما غيي بذلك تعين أن الغاية هي المقصد، ومتى كانت الغاية غير حسية نشأ عن حتى معنى التعليل، فإن العلة غاية اعتبارية كقوله تعالىولا يزالون يقاتلونكم حتى يردونكم عن دينكم } البقرة 217. وأيَّا ما كان فالمضارع منصوب بعد حتى بأن مضمرة للدلالة على ترتب الغاية. والفتنة تقدمت قريباً. والمراد بها هنا كالمراد بها هنالك، ولما وقعت هنا في سياق النفي عمت جميع الفتن فلذلك ساوت المذكورة هنا المذكورة في قوله تعالىوالفتنة أشد من القتل } البقرة 191 فإعادة الفتنة منكرة هنا لا يدل على المغايرة كما هو الشائع بين المعربين في أن المعرفة إذا أعيدت نكرة فهي غير الأولى لأن وقوعها في سياق النفي أفاد العموم فشمل جميع أفراد الفتنة مساوياً للفتنة المعرفة بلام الاستغراق إلاّ أنه استغراق عرفي بقرينة السياق فتقيد بثلاثة قيود بالقرينة أي حتى لا تكون فتنة منهم للمسلمين في أمر الدين وإلاّ فقد وقعت فتن بين المسلمين أنفسهم كما في حديث " ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلاّ دخلته ". وانتفاء الفتنة يتحقق بأحد أمرين إما بأن يدخل المشركون في الإسلام فتنزل فتنتهم فيه، وإما بأن يقتلوا جميعاً فتزول الفتنة بفناء الفاتنين. وقد يُفرض انتفاء الفتنة بظهور المسلمين عليهم ومصير المشركين ضعفاء أمام قوة المسلمين، بحيث يخشون بأسهم، إلاّ أن الفتنة لما كانت ناشئة عن التصلب في دينهم وشركهم لم تكن بالتي تضمحل عند ضعفهم، لأن الإقدام على إرضاء العقيدة يصدر حتى من الضعيف كما صدر من اليهود غير مرة في المدينة في مثل قصة الشاة المسمومة، وقتلهم عبد الله بن سهل الحارثي في خيبر، ولذلك فليس المقصود هنا إلاّ أحد أمرين إما دخولهم في الإسلام وإما إفناؤهم بالقتل، وقد حصل كلا الأمرين في المشركين ففريق أسلموا، وفريق قتلوا يوم بدر وغيره من الغزوات، ومن ثم قال علماؤنا لا تقبل من مشركين العرب الجزية، ومن ثم فسر بعض المفسرين الفتنة هنا بالشرك تفسيراً باعتبار المقصود من المعنى لا باعتبار مدلول اللفظ.

السابقالتالي
2