الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

{ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أمرٌ بالإنفاق في سائر وجوه القربات والطاعات. ومن أهمها: صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوّهم.

وقوله تعالى: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } أي: ما يؤدي إلى الهلاك أي: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك، وذلك بالتعرض لما تستوخم عاقبته، جهلاً به.

قال الراغب: وللآية تأويلان بنظرين: أحدهما: إنه نهى عن الإسراف في الإنفاق، وعن التهوّر في الإقدام. والثاني: إنه نهى عن البخل بالمال، وعن القعود عن الجهاد. وكلا المعنيين يراد بها. فالإنسان، كما أنه منهيّ عن الإسراف في الإنفاق، والتهور في الإقدام، فهو منهي عن البخل والإحجام عن الجهاد، ولهذا قال تعالى:وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [الفرقان: 67] الآية، وقال:وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } [الإسراء: 29] الآية.

ولما كان أمر الإنفاق أخصّ بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال، لتجرد المهاجرين عنها، وقد اشتهر في هذه الآية حديث أبي أيوب الأنصاريّ، رواه أبو داود، والترمذيّ، والنسائي وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وغيرهم... ولفظ الترمذي: عن أسلم أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم. فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر. وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد. فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتى دخل عليهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة..! فقام أبو أيوب الأنصاريّ فقال: يا أيها الناس! إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل. وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. لما أعزّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرّاً - دون رسول الله صلى الله عليه وسلم - إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها! فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم يردّ علينا ما قلنا { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } فكانت التهلكة الإقامةَ على الأموال، وإصلاحها، وتركنا الغزو. فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. هذا حديث حسن غريب صحيح.

أقول: إنكار أبي أيوب رضي الله عنه إمّا لكونه لا يقول بعموم اللفظ بل بخصوص السبب، وإمّا لردّ زعم أنها نزلت في القتال. أي: في حمل الواحد على جماعة العدوّ كما تأولوها. وهذا هو الظاهر. وإلا فاللفظ يقتضي العموم، ووروده على السبب لا يصلح قرينة لقصره على ذلك. ولا شبهة أنّ التعبد إنما هو باللفظ الوارد وهو عام.

وقد استشهد بعموم الآية عمرو بن العاص فيما رواه ابن أبي حاتم بسنده: أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث أخبر أنهم حاصروا دمشق.

السابقالتالي
2