قوله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ }. يحتمل: { يَسْأَلُونَكَ } ، أي: سألوك عن الأهلة. ويحتمل: { يَسْأَلُونَكَ } [أنهم يسألونك] من بعد، فإن كان على هذا ففيه دليل رسالته؛ لأنه كان كما أخبر من السؤال له. ثم معنى السؤال عن الأهلة - والله أعلم - هو أنهم لما رأوا الشمس تطلع دائماً على حالة واحدة، ورأوا القمر مختلف الأحوال من الزيادة والنقصان فحملهم ذلك على السؤال عن حال القمر، فأخبر - عز وجل - أنه جعل الهلال معرفاً للخلق الأوقات والآجال والمدد ومعرفة وقت الحج؛ لأنه لو جعل معرفة ذلك بالأيام لاشتد حساب ذلك عليهم، ولتعذر معرفة السنين والأوقات بالأيام. فجعل - عز وجل - بلطفه وبرحمته، الأهلة ليعرفوا بذلك الأوقات والآجال، ويعرفوا وقت الحج، ووقت الزكاة؛ طلباً للتخفيف والتيسير عليهم. ثم قال: { هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } ، جعل الأهلة كلها وقتاً للحج. ولهذا قال أصحابنا: إنه يجوز الإحرام في الأوقات كلها، على ما يجوز بقاء الإحرام في الأوقات كلها. وأما أفعال الحج: فإنها لا تجوز إلا في وقت فعل الحج، وهو قوله:{ ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } [البقرة: 197]، فإنما هي على أفعال فيه، دليله قوله:{ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ } [البقرة: 197]، ولا تفرض من الحج في غير الإحرام؛ دل أنه عنى به أفعال الحج، وقد جاء: أنه سمى الإحرام على الانفراد حجّاً، وسمى الطواف بالبيت حجّاً، والوقوف حجّاً، وقال: " الحج عرفة " وسمى الذبح حجّاً، حيث قال: " أفضل الحج العج والثج " وإنما سمى كلاًّ منها حجّاً؛ لما جعل لها أوقاتاً معلومة يؤدى فيها. وأما الإحرام فإنه جعل الأشهر كلها وقتاً له بقوله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ }. وقوله: { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا }. لا معنى لعطف هذا على الأول إلا على إضمار السؤال، كأنهم سألوه عن الأهلة وعن إتيان البيوت من ظهورها، فأخبر: أن ليس البر في إتيان البيوت من ظهورها. { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. ثم اختلف في القصة هذا الكلام: قال بعضهم: إن بعض العرب إذا أحرم أحدهم لم يدخل بيته من بابه، ولكن يدخل من ظهر البيت؛ مخافة تغطية الرأس إذا دخل من بابه. وقيل: إن بعض العرب إذا خرج أحدهم لحاجة ولم يقض حاجته، فرجع لم يدخل البيت من بابه، ولكن يدخل من وراء ظهره، يكره دخول بيت غير منجح - يتطيرون به - ويتفاءلون قضاءها ثانياً. فقال الله عز وجل: { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ } فما تصنعون ، { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ } ، واتبع أمر الله، وانتهى عما نهى عنه، ويأتي { ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا }.