الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ }

{ فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } الاستجابةُ بمعنى الإجابة، وقال تاجُ القراء: الإجابة عامةٌ والاستجابة خاصةٌ بإعطاء المسؤولِ، وتتعدى باللام وبنفسها كما في قوله: [الطويل]
[وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندي]   فلم يستجبْهُ عند ذاك مُجيبُ
وهو عطفٌ على الاستئنافِ المقدَّرِ فيما سلف، مترتبٌ على ما في حيزه من الأدعية كما أن قوله عز وجل:ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [يونس، الآية 52] الخ عطفٌ على قيل المقدَّرِ قبل الآنَ، أي قيل لهم آلآْنَ آمنتم به؟ ثم قيل الآية وكما أن قوله تعالى في سورة الأعراف:وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } [الأعراف، الآية 100] معطوفٌ على ما دل عليه معنىأَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ } [السجدة، الآية 26] الخ كأنه قيل يغفُلون عن الهداية ونطبَع الخ ولا ضيرَ في اختلافهما صيغةً لما أن صيغةَ المستقبلِ هناك للدِلالة على الاستمرار المناسبِ لمقام الدعاءِ، وصيغةَ الماضي هٰهنا للإيذان بتحقيق الاستجابةِ وتقرّرِها كما لا ضير في الاختلاف بـين قوله تعالى:إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } [الأنفال، الآية 9] وبـين ما عُطف عليه من قوله تعالى:فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ } [الأنفال، الآية 9] كما سيأتي، ويجوز أن يكون معطوفاً على مضمَرٍ ينساق إليه الذهنُ، أي دَعَوا بهذه الأدعيةِ فاستجاب الخ وأما على تقدير كونِ المقدرِ حالاً فهو عطفٌ على يتفكرون باعتبار مقارنتِه لما وقع حالاً من فاعله، أعني قوله تعالى ربنا ربنا الخ فإن الاستجابةَ مترتبةٌ على دَعَواتهم لا على مجرد تفكّرِهم، وحيث كانت هي من أوصافهم الجميلةِ المترتبةِ على أعمالهم بالآخرة استحقت الانتظامَ في سلك محاسِنهم المعدودةِ في أثناء مدحِهم، وأما على تقدير كونِ الموصولِ نعتاً لأولي الألبابِ فلا مَساغَ لهذا العطفِ أصلاً لما عرفتَ من أن حقَّ ما في حيِّز الصلةِ أن يكون من مبادي جَرَيانِ الحُكمِ على الموصول، وقد عرفت أن دَعَواتِهم السابقةَ ليست كذلك، فأين الاستجابةُ المتأخرةُ عنها؟ وفي التعرض لعنوان الربوبـيةِ المنبئةِ عن التبليغ إلى الكمال ــ مع الإضافةِ إلى ضميرهم من تشريفهم وإظهارِ اللطفِ بهم ــ ما لا يخفى.

{ أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ } أي بأني، وهكذا قرأ أُبـيٌّ رضي الله عنه، والباءُ للسببـية كأنه قيل فاستجاب لهم ربُّهم بسبب أنه لا يُضيع عملَ عامل منهم أي سُنّتُه السنيةُ مستمرَّةٌ على ذلك، والالتفاتُ إلى التكلم، والخطابُ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بشأن الاستجابةِ وتشريفِ الداعين بشرف الخطاب، والمرادُ تأكيدُها ببـيان سببها والإشعارُ بأن مدارَها أعمالهم التي قدموها على الدعاء لا مجردُ الدعاءِ. وتعميمُ الوعدِ لسائر العاملين وإن لم يبلُغوا درجةَ أولي الألبابِ لتأكيد استجابةِ الدعواتِ المذكورةِ، والتعبـيرُ عن ترْك الإثابةِ بالإضاعة مع أنه ليس بإضاعة حقيقةٍ إذ الأعمالُ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يلزَمَ من تخلّفه عنها ضياعُها لبـيان كمالِ نزاهتِه تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدورُه عنه من القبائح، وإبرازِ الإثابةِ في معرض الأمورِ الواجبةِ عليه.

السابقالتالي
2