الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ }

فيه ثلاث مسائل: الأولىٰ ـ هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات. فقوله: { خُذِ ٱلْعَفْوَ } دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله: { وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ } صلةُ الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغَضّ الأبصار، والإستعداد لدار القرار. وفي قوله: { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } الحَضُّ على التعلّق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء. ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة. قلت: هذه الخصال تحتاج إلى بسط، وقد جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن سليم. " قال جابر بن سليم أبو جُرَىّ: ركبت قَعودي ثم أتيت إلى مكة فطلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنخت قعودي بباب المسجد، فدلُّوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هوجالس عليه بُرْد من صوف فيه طرائقُ حُمر فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فقال: «وعليك السلام». فقلت: إنّا معشر أهل البادية، قوم فينا الجفاء فعلِّمني كلماتٍ ينفعني الله بها. قال: «ٱدْن» ثلاثاً، فدنوت فقال: «أعِد عليّ» فأعدت عليه فقال: «ٱتق الله ولا تحقرنّ من المعروف شيئاً وأن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تُفرِغ من دَلْوك في إناء المستسقي وإن ٱمرؤ سبّك بما لا يعلم منك فلا تُسبّه بما تعلم فيه فإن الله جاعل لك أجراً وعليه وِزْراً ولا تسبّن شيئاً مما خَوّلك الله تعالىٰ». قال أبو جُرَى: فوالذي نفسي بيده، ما سبَبْت بعده شاة ولا بعيراً " أخرجه أبو بكر البزار في مسنده بمعناه. وروى أبو سعيد المَقْبُرِيّ عن أبيه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق " وقال ابن الزبير: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وروى البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير في قوله: { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ } قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وروى سفيان بن عُيَيْنَة عن الشعبيّ أنه قال: " إن جبريل نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا جبريل»؟ فقال: «لا أدري حتى أسأل العالم» في رواية «لا أدري حتى أسأل ربي» فذهب فمكث ساعة ثم رجع فقال: «إن الله تعالىٰ يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك» " فنظمه بعض الشعراء فقال:
مكارم الأخلاق في ثلاثةٍ   من كَمُلَتْ فيه فذلك الفَتَىٰ
إعطاءُ مَن تحرِمه ووَصلُ مَن   تَقْطَعُه والعفْوُ عَمّنِ ٱعتدَى

السابقالتالي
2 3