الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

فيه إثنان وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي } كان الزّنَى في اللغة معروفاً قبل الشرع، مثل اسم السرقة والقتل. وهو اسمٌ لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها. وإن شئت قلت: هو إدخال فرج في فرجٍ مشتهًى طبعاً محرّمٍ شرعاً فإذا كان ذلك وجب الحدّ. وقد مضى الكلام في حدّ الزنى وحقيقته وما للعلماء في ذلك. وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة «النساء» باتفاق. الثانية: قوله تعالى: { مِئَةَ جَلْدَةٍ } هذا حدّ الزاني الحر البالِغ البكر، وكذلك الزانية البالغة البكر الحرّة. وثبت بالسُّنّة تغريب عامٍ على الخلاف في ذلك. وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة لقوله تعالى:فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَاتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } [النساء: 25] وهذا في الأَمَة، ثم العبدُ في معناها. وأما المُحْصَن من الأحرار فعليه الرّجْم دون الجلد. ومن العلماء من يقول: يجلد مائة ثم يُرْجَم. وقد مضى هذا كله ممهَّداً في «النساء» فأغنى عن إعادته، والحمد لله. الثالثة: قرأ الجمهور «الزَّانِيَةُ والزّانِي» بالرفع. وقرأ عيسى بن عمر الثَّقَفِيّ «الزانيةَ» بالنصب، وهو أوجه عند سيبويه لأنه عنده كقولك: زيداً اضرب. ووجه الرفع عنده: خبر ابتداء، وتقديره: فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني. وأجمع الناس على الرفع وإن كان القياس عند سيبويه النصب. وأما الفرّاء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه، والخبر في قوله: «فاجلدوا» لأن المعنى: الزانية والزاني مجلودان بحكم الله وهو قول جيد، وهو قول أكثر النحاة. وإن شئت قدّرت الخبر: ينبغي أن يجلدا. وقرأ ابن مسعود «والزان» بغير ياء. الرابعة: ذكر الله سبحانه وتعالى الذَّكَر والأنثى، والزاني كان يكفي منهما فقيل: ذكرهما للتأكيد كما قال تعالى:وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38]. ويحتمل أن يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظانّ أن الرجل لما كان هو الواطىء والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حدّ فذكرها رفعاً لهذا الإشكال الذي أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعيّ. فقالوا: لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان لأنه قال جامعت أهلي في نهار رمضان فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كفِّر». فأمره بالكفارة، والمرأةُ ليست بمجامعة ولا واطئة. الخامسة: قُدّمت «الزانية» في هذه الآية من حيث كان في ذلك الزمان زِنَى النساء فاش، وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات، وكنّ مجاهراتٍ بذلك. وقيل: لأن الزنى في النساء أعر وهو لأجل الحبل أضر. وقيل: لأن الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب فصدّرها تغليظاً لتَرْدَع شهوتها، وإن كان قد رُكِّب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله. وأيضاً فإن العار بالنساء ألحق إذ موضوعهنّ الحجب والصيانة فقدم ذكرهنّ تغليظاً واهتماماً.

السابقالتالي
2 3 4 5