الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْعَصْرِ } * { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ }

قوله - عز وجل -: { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } ، خرج قوله: { وَٱلْعَصْرِ } مخرج القسم، والقسم موضوع في الشاهد؛ لتأكيد ما ظهر من الحق الخفي، أو لنفي شبهة اعترضت، أو دعوى ادعيت؛ فكذلك في الغائب.

ثم الأصل بعد هذا: أنه ليس في جميع القرآن شيء مما وقع عليه القسم إلا إذا تأمله المرء واستقصى فيه، وجد فيه المعنى الذي أوجبه القسم لولا القسم.

ثم اختلفوا في تأويل قوله: { وَٱلْعَصْرِ }:

فمنهم من قال: هو الدهر والزمان.

ومنهم من قال: هو آخر النهار، فذلك وقت يشتمل على طرفي النهار، وهو آخر النهار وأول الليل؛ فكأنه يراد به: الليل والنهار.

وقال أبو معاذ: تقول العرب: " لا أكلمك العصران " ، يريدون: الليل والنهار، وفي مرور الليل والنهار مرور الدهور والأزمنة؛ لأنهما يأتيان على الدهور والأزمنة وما فيهما؛ فكان في ذكر الليل والنهار ذكر كل شيء، والقسم بكل شيء قسم بمنشئه؛ لأن كل شيء من ذلك [إذا] نظرت فيه، دلك على صانعه ومنشئه.

وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } ، إن الدنيا وما فيها كأنها خلقت وأنشئت متجراً للخلق، والناس فيها تجار؛ كما ذكره في غير آي من القرآن، قال الله - تعالى -:إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ } [التوبة: 111]، وقال:هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الصف: 10]، أي: إن الإنسان لفي خسار من تجارته ومبايعته { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ... } الآية.

ولقائل أن يقول: كيف استثنى أهل الربح من أهل الخسران، ولم يستثن أهل الخسران من أهل الربح؟! فيقول: " إن الإنسان لفي ربح إلا الذين كفروا " ، واستثناء هذه الفرقة من تلك أولى في العقول من تلك؟!

والجواب عن هذا: أن هذه الآية إنما نزلت بقرب من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقوم بأجمعهم كانوا أهل كفر وخسار؛ فلذلك وقع الاستثناء على ما ذكر؛ إذ استثناء القليل من الكثير هو المستحسن عند أهل اللغة، وإن كان القسم الثاني في حد الجواز، والقرآن في أعلى طبقات الكلام في الفصاحة.

ثم قوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلإِنسَانَ } اسم جنس؛ فكأنه أراد: جميع الناس؛ ألا ترى أنه قال: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } ، ولا تستثنى الجماعة من الفرد؛ فكأنه يقول - على هذا -: إن الناس في أحوالهم واختياراتهم في خسر إلا من كانت تجارته في تلك الحالة ما ذكر.

وقوله - عز وجل -: { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } يحتمل أن يكون تأويله: الصالحات التي كانت معروفة في الكفر والإسلام من حسن الأخلاق وغيره؛ ألا ترى أنه قال:

السابقالتالي
2