الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }

قوله: { أَمْشَاجٍ }: نعتٌ لـ " نُطْفة " ووَقَعَ الجمعُ صفةً لمفردٍ؛ لأنَّه في معنى الجمع، كقولِه تعالى:رَفْرَفٍ خُضْرٍ } أو جُعِل كلُّ جزءٍ من النُّطفةِ نُطفةً، فاعتبر ذلك فوُصِفَ بالجمع، وقال الزمخشري: " أََمْشاج كبْرْمَةٍ أَعْشار، وبُرْدٍ أَكْياشٌ وهي ألفاظٌ مفردةٌ غيرُ جموعٍ؛ ولذلك تقع صفاتٍ للأفرادِ " ويقال: نُطْفَةٌ مَشَجٌ، قال الشماخ:
4433ـ طَوَتْ أَحْشاءَ مُرْتِجَةٍ لوَقْتٍ   على مَشَجٍ سُلالتُه مَهِينُ
ولا يَصِح " أَمْشاج " أَنْ يكونَ تكسيراً له، بل هما مِثْلان في الإِفرادِ لوصف المفرد بهما ". فقد مَنَعَ أَنْ يكونَ أَمْشاجاً جمعَ " مِشْجٍ " بالكسر. قال الشيخ: " وقوله مخالفٌ لنصِّ سيبويهِ والنَّحْويين على أَنْ أَفعالاً لا يكون مفرداً. قال سيبويه: " وليس في الكلامِ " أَفْعال " إلاَّ أَنْ يُكَسَّرَ عليه اسماً للجميع، وما وَرَدَ مِنْ وصفِ المفردِ بأَفْعال تَأَوَّلوه " انتهى. قلت: هو لم يَجْعل أَفْعالاً مفرداً، إنما قال: يُوْصف به المفردُ، يعني بالتأويلِ الذي ذَكَرْتُه مِنْ أنَّهم جَعَلُوا كلَّ قِطعةٍ من البُرْمَة بُرْمَةً، وكلَّ قطعةٍ من البُرْد بُرْداً، فوصفوهما بالجمع. وقال الشيخ: " الأمْشاج " الأخلاط، واحدُها مَشَج بفتحتين، أو مِشْج كعِدْل وأَعْدال أو مَشِيج كشريف وأَشْراف، قاله ابنُ الأعرابي. وقال رؤبة:
4434ـ يَطْرَحْن كلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجٍ   لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أَمْشاجِ
وقال الهذلي:
4435ـ كأن الرِّيْشَ والفُوْقَيْنِ منها   خِلافَ النَّصْلِ سِيْطَ به مَشِيْجُ
وقال الشماخ:
4436ـ طَوَتْ أحشاءَ مُرْتِجَةٍ......   .....................
البيت. ويقال: " مَشَج يَمْشُجُ مَشْجاً إذا خَلَط، ومَشيج كخليط ومَمْشوج كمخلوط " انتهى. فجوَّزَ أَنْ يكونَ جَمْعاً لـ مِشْج كعِدْل، وقد تقدَّم أنَّ الزمخشريَّ: مَنَعَ ذلك. وقال الزمخشريُّ: " ومَشَجَه ومَزَجَه بمعنىً، والمعنى: مِنْ نُطْفة امتزَجَ فيها الماءان.

قوله: { نَّبْتَلِيهِ } يجوزُ في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها حالٌ مِنْ فاعل " خَلَقْنا " ، أي: خَلَقْنا حالَ كونِنا مُبْتَلِين له. والثاني: أنَّها حالٌ من " الإنسان " ، وصَحَّ ذلك لأنَّ في الجملة ضميرَيْن كلٌّ منهما يعودُ على ذي الحال. ثم هذه الحالُ يجوزُ أَنْ تكونَ مقارِنَةً إنْ كان المعنى بـ " نَبْتَليه ": نُصَرِّفُه في بطنِ أمِّه نُطْفَةً ثم عَلَقَةً. وهو قولُ ابن عباس، وأَنْ تكونَ مقدرةً إنْ كان المعنى بـ " نَبْتَليه ": نَخْتَبره بالتكليفِ؛ لأنَّه وقتَ خَلْقِهِ غيرُ مكلَّفٍ. وقال الزمخشري: " ويجوزُ أَنْ يكونَ المرادُ: ناقلين له مِنْ حالٍ إلى حالٍ، فُسُمِّي ذلك ابتلاءً على طريق الاستعارةِ ". قلت: هذا هو معنى قولِ ابنِ عباس المتقدَّمِ. وقال بعضُهم: " في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ. والأصلُ: إنَّا جَعَلْناه سميعاً بصيراً نَبْتَليه، أي: جَعَلْنا/ له ذلك للابْتلاءِ " وهذا لا حاجةَ إليه.