الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }

{ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ } إلى آخر السورة صح فلا يقال أيضاً إن المانع منه عدم صحة ارتباطه بما قبله معنى. نعم الارتباط خلاف الظاهر، والاستفهام للإنكار، والحسبان مصدر كالغفران مما يتعلق بمضامين الجمل لأنه من الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر وذلك للدلالة على وجه ثبوتها في الذهن أو في الخارج من كونها مظنونة أو متيقنة فتقتضي مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر أو ما يسد مسدهما وقد سد مسدهما هنا على ما قاله الحوفي وابن عطية وأبو البقاء: قوله تعالى: { أَن يُتْرَكُواْ } وسد (أن) المصدرية الناصبة للفعل مع مدخولها مسد الجزأين مما قاله ابن مالك، ونقله عنه الدماميني في «شرح التسهيل»، وزعم بعضهم أن ذلك إنما هو في أن المفتوحة مشددة ومثقلة مع مدخولها، والترك هنا على ما ذكره الزمخشري بمعنى التصيير المتعدي لمفعولين كما في قوله تعالى:وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [البقرة: 17] وقول الشاعر:
فتركته جزر السباع ينشنه   يقضمن قلة رأسه والمعصم
فضمير الجمع نائب مفعول أول والمفعول الثاني متروك بدلالة الحال الآتية أي كما هم أو على ما هم عليه كما في قوله تعالى:أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ } [التوبة: 16] على ما قدره الزمخشري فيه وقوله سبحانه: { أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا } بمعنى لأن يقولوا متعلق بيتركوا على أنه غير مستقر، وقوله تعالى: { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } في موضع الحال من ضمير { يتركوا } ، ويجوز أن لا يعتبر كون المفعول الثاني ليتركوا متروكاً بل تجعل هذه الجملة الحالية سادة مسده، ألا ترى أنك لو قلت: علمت ضربـي زيداً قائماً صح، على أن ترك ليس كأفعال القلوب في جميع الأحكام، بل القياس أن يجوز الاكتفاء فيه بالحال من غير نظر إلى أنه قائم مقام الثاني لأن قولك: تركته وهو جزر السباع كلام صحيح كما تقول أبقيته على هذه الحالة، وهو نظير سمعته يتحدث في أنه يتم بالحال بعده أو الوصف، وهٰهنا زاد أنه يتم أيضاً بما يجري مجرى الخبر، وجوز أن تكون هذه الجملة هي المفعول الثاني لا سادة مسده وتوسط الواو بين المفعولين جائز كما في قوله:
وصيرني هواك وبـي   لحيني يضرب المثل
وقد نص شارح أبيات «المفصل» على أنه حكي عن الأخفش أنه كان يجوز كان زيد وأبوه قائم على نقصان كان وجعل الجملة خبراً مع الواو تشبيهاً لخبر كان بالحال فمتى جاز في الخبر عنده فليجز في المفعول الثاني وهو كما نرى، واستظهر الطيبـي كون الترك هنا متعدياً لواحد على أنه بمعنى التخلية وليس بذاك، وجوز الحوفي. وأبو البقاء أن يكون { أَن يَقُولُواْ } بدلاً من { أن يتركوا } وجوز أن يكون { أَن يُتْرَكُواْ } هو المفعول الأول لحسب و { هُمْ لا يُفْتَنُونَ } في موضع الحال من الضمير { أَِن يَقُولُواْ } بتقدير اللام هو المفعول الثاني، وكونه علة لا ينافي ذلك كما في قولك: حسبت ضربه للتأديب، والتقدير أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم: آمنا، والمفعول الثاني ليتركوا متروك بدلالة الحال.

السابقالتالي
2 3