الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } * { فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } * { إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } * { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }

قوله: { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ }. أي: ضعيف حقير وهو النُّطفة، وهذا نوع آخر من تخويف الكفار، وهو من وجهين:

الأول: أنه - تعالى - ذكرهم عظيم إنعامه عليهم، وكلما كانت نعمه عليهم أكثر كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش، فيكون العقاب أعظم، فلهذا قال جل ذكره عقيب هذه الأنعام: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }.

والثاني: أنه تعالى ذكرهم كونه تعالى قادراً على الابتداء، والظاهر في العقل أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة، لا جرم قال في حقهم: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ، وهذه الآية نظير قوله تعالى:ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [السجدة: 8].

{ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } ، أي: مكان حريز وهو الرَّحم.

{ إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } ، قال مجاهد: إلى أن نصوره، وقيل: إلى وقت الولادة، كقوله تعالى:إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [لقمان: 34] إلى قوله:وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ } [لقمان: 34].

قوله تعالى: { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ } ، قرأ نافع والكسائي: بالتشديد من التقدير، وهو موافق لقوله تعالى:مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [عبس: 19].

والباقون: بالتخفيف، من القدرة، ويدل عليه { فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ }.

ويجوزُ أن يكون المعنى على القراءة الأولى: فنعم القادرون على تقديره: وإن جعلت " القادرون " بمعنى " المقدرون " كان جمعاً بين اللَّفظين، ومعناهما واحد، ومنه قوله تعالى:فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [الطارق: 17]؛ وقول الأعشى: [البسيط]
5057- وأنْكرَتْنِي وقَدْ كَانَ الَّذِي نَكرَتْ   مِنَ الحَوادثِ إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلْعَا
وقال الكسائي والفراء: هما لغتان بمعنى.

قال القتيبي: " قَدَرْنَا " بمعنى " قَدَّرْنَا " مشددة، كما تقول: قدرت كذا وقدرته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الهلال: " إذَا غُمَّ عَليْكُمْ فاقْدُرُوا لَهُ " أي: قدروا له المسير والمنازل.

وقال محمد بن الجهم عن الفرَّاء: أنه ذكر تشديدها عن علي - رضي الله عنه - وتخفيفها.

قال: ولا يبعُد أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحداً، لأن العرب تقول: قدر عليه الموت وقدر، قال تعالى:نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } [الواقعة: 60] قرئ بالتخفيف والتشديد، وقدر عليه رزقه وقدر، واحتج الذين خففوا فقالوا: لو كانت كذلك لكانت " فنِعْمَ المُقدِّرُونَ ".

قال الفراء: والعرب تجمع بين اللُّغتين، واستدل بقوله:فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ } الآية، [الطارق: 17] وذكر بيت الأعشى المتقدم.

وقيل: المعنى قدَّرنا قصيراً وطويلاً، ونحوه عن ابن عبَّاس: قدرنا ملكنا.

قال المهدوي: وهذا التفسير أشبه بقراءة التخفيف.