الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } * { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ }

يتخيّرون: يأخذون خيره. يقال: تخيّرتُ الشيء: أخذتُ خيره وأفضله. ويشتهون: يتمنّون. فإنّ أهل الجنّة إذا تخيّروا شيئا واشتهوه خلقه الله دفعة، فإذا تمنّوا فاكهة - أيّ فاكهة كانت -، تكوّنت بإذن الله كما تخيّروه. وإذا تمنّوا لحم الطير النضيج، خلق الله لهم لحم الطير نضيجاً من غير حاجة إلى ذبح الطير وإيلامه.

قال ابن عبّاس رضي الله عنه: يخطر على قلبه الطير فيطير ممثّلا بين يديه على ما اشتهى.

وهذه علم غفل عنه الأكثرون، وأدركه المكاشفون إدراكاً علميّا ذوقيّا بعد أن اعتقدوه اعتقاداً إيمانيّا، وربما يبلغ العارف إلى مقام يقال له مَقام: " كُنْ " في عرفهم، فيكون هذا حاله، وإن كان بعد في الدنيا مثل حال أهل الجنّة، فما يقول لشيء " كُن إلاّ ويكون ".

وروي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) إنّه قال - حين كان في غزوة تبوك - كُن أبا ذر. فكان أبا ذر.

وذلك لأنّ الله قد حوَّل باطنه في النشأة الأخرويّة، بل ما من عارف بالله من حيث التجلّي الإلهيّ إلاّ وهو قبل النشأة الآخرة قد حشر في دنياه ونُشر في قبره، فهو يرى ما لا يراه الناس، ويشاهد ما لا يشاهدون، ويفعل ما لا يفعلون، عناية من الله ببعض عباده.

كما أعرب عنه بعض العرفاء حكاية عن نفسه - وبيانه ممّا يحتاج إلى إظهار لمعة من علوم المكاشفة قريبة المأخذ من علوم المناظرة -، وهو أنّ الله سبحانه، قد خلق النفس الإنسانية وأبدعها مثالاً له ذاتا وصفة - ولله المثل الأعلى -، وفعلاً، مع التفاوت العظيم بين المثال والممثّل له، ولذلك جعل معرفتها وسيلة إلى معرفته، كما يدلّ عليه الحديث المشهور:

" مَن عَرَف نفسَه فقد عَرَفَ ربّه ".

فهي قد أبدعت مفتاحاً لمعرفة الله تعالى ذاتاً وصفة وأفعالاً، لا لكونها مثالاً له كذلك، أما الذات، فقد خلقها الباري وجوداً نوريّا مفارقا عن الأجرام والأحياز والأوضاع في ذاتها. وأمّا الصفات، فقد خلقت عالمة قادرة حيّة سميعة بصيرة متكلّمة، وهذه كلّها صفات الله من حيث المفهوم. وأمّا الأفعال، فذاتها عالَمها، والبدن كأنّه نسخة مختصرة من مجموع العالَم الدنيوي - أفلاكه وعناصره، بسايطه ومركّباته، وجواهره وأعراضه -، ولها أيضاً في ذواتها مملكة خاصّة شبيهة بمملكة بارئها، مشتملة على أمثلة الجواهر والأعراض المجرّدة والماديّة، وأصناف الأجسام الفلكيّة والعنصريّة، وساير الخلايق يشاهدها بنفس حصولها فيها، ومُثولها بين يديها، شهودا إشراقيّا، ومُثولا نوريّا.

والناس في غفلة وذُهول عن عجايب الفطرة الآدمية وغرايب القلب الإنساني، لاهتمامهم بعالَم المحسوس ونسيانهم أمر الآخرة ومعرفة الرب والرجوع إليه:نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ }

السابقالتالي
2 3