الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: { أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ } هذا يرجع إلى الفريق الثاني، فريق الإسلام أي لهم ثواب الحج أو ثواب الدعاء، فإن دعاء المؤمن عبادة. وقيل: يرجع «أولئك» إلى الفريقين فللمؤمن ثواب عمله ودعائه، وللكافر عقاب شركه وقصر نظره على الدنيا وهو مِثْل قوله تعالى:وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ ممَّا عَمِلُوا } [الأحقاف: 19] الثانية: قوله تعالى: { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } مِن سَرُع يَسْرُع ـ مثلُ عَظُم يَعْظُم ـ سِرْعاً وسُرْعة فهو سريع. «الحساب»: مصدر كالمحاسبة وقد يُسَمَّى المحسوب حساباً. والحساب العدّ يقال: حسَب يحسُب حِساباً وحِسابةً وحُسباناً وحِسباناً وحَسْباً أي عدّ. وأنشد ٱبن الأعرابي:
يا جُمْلُ أسقاكِ بلا حِسَابَهْ   سُقْيَا مَليكٍ حَسَنِ الرِّبَابهْ
قَتَلْتِنِي بالدَّلّ والخِلاَبَهْ   
والحَسَب: ما عُدّ من مفاخر المرء. ويقال: حَسَبُه دِينُه. ويقال: مالُه ومنه الحديث: " الحَسُب المالُ والكرُم التّقوى " رواه سَمُرة بن جُنْدب، أخرجه ٱبن ماجه، وهو في الشهاب أيضاً. والرجل حسيب، وقد حَسُب حَسابة بالضم مثل خَطُب خَطَابة. والمعنى في الآية: أن الله سبحانه سريع الحساب، لا يحتاج إلى عدّ ولا إلى عقد ولا إلى إعمال فكر كما يفعله الحسّاب ولهذا قال وقوله الحق:وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمّ منزّل الكتاب سريع الحساب " الحديث. فٱلله جل وعز عالم بما للعباد وعليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمّل، إذ قد علم ما للمحاسب وعليه، لأن الفائدة في الحساب علم حقيقته. وقيل: سريع المجازاة للعباد بأعمالهم. وقيل: المعنى لا يشغله شأن عن شأن، فيحاسبهم في حالة واحدة كما قال وقوله الحق:مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان: 28]. قال الحسن: حسابه أسرع من لمح البصر وفي الخبر «إن الله يحاسب في قدر حلب شاة». وقيل: هو أنه إذا حاسب واحداً فقد حاسب جميع الخلق. وقيل لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال: كما يرزقهم في يوم! ومعنى الحساب: تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه بدليل قوله تعالى:يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوۤاْ أَحْصَاهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ } [المجادلة: 6]. وقيل: معنى الآية سريع بمجيء يوم الحساب فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة. قلت: والكل محتمل، فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالأعمال الصالحة وإنما يخف الحساب في الآخرة على من حاسب نفسه في الدنيا. الثالثة: قال ٱبن عباس في قوله تعالى: { أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ } هو الرجل يأخذ مالاً يحج به عن غيره، فيكون له ثواب. وروي عنه في هذه الآية " أن رجلاً قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج أفأحج عنه؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«لو كان على أبيك دَين فقضيته أمَا كان ذلك يَجزي». قال نعم. قال: «فَدين الله أحق أن يُقضَى» "

السابقالتالي
2