الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيۤ آيَاتِنَا قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ }

لما ذكر تعالى قوله: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون } الآية ثم ذكر قوله: { وقالوا لولا أنزل عليه آية } وذلك على سبيل التعنت أخبر أنّ هؤلاء إنما يصيرون لهذه المقالات عندما يكونون في رخاء من العيش وخلو بال، وأنّ إحسان الله تعالى قابلوه بما لا يجوز من ابتغاء المكر لآياته، وكان خليقاً بهم أن يكونوا أول من صدق بآياته. وإعراضهم عن الآيات نظير قوله: { فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه }. وسبب نزولها أنه لما دعا على أهل مكة الرسول بالجدب قحطوا سبع سنين، فأتاه أبو سفيان فقال: إدع لنا بالخصب، فإنّ أخصبنا صدقنا، فسأل الله لهم فسقوا ولم يؤمنوا، وهذه وإن كانت في الكفار فهي تتناول من العاصين من لا يؤدّي شكر الله عند زوال المكروه عنه، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثير. تجد الإنسان يعقد عند مس الضر التوبة والتنصل من سائر المعاصي، فإذا زال عنه رجع إلى أقبح عاداته. والرحمة هنا الغيث بعد القحط، والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، وما أشبه ذلك. ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم، ومعنى مكر في آياتنا التكذيب بالقرآن، والشك فيه قاله الجماعة. وقال مجاهد ومقاتل: الاستهزاء والتكذيب. وقال أبو عبيدة: الرد والجحود. وحكى الماوردي النفاق لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وهو شبيه بما قال الزمخشري: إنّ المكر أخفى الكيد. وقال ابن عطية: والمكر الاستهزاء والطعن عليها من الكفار، واطراح الشكر والخوف من العصاة انتهى. والإذاقة والمس هنا مجازان، وفي هذه الجملة دليل على سرعة تقلب ابن آدم من حالة الخير إلى حالة الشر، وذلك بلفظ أذقنا، كأنه قيل: أول ذوقه الرحمة قبل أن يدوام استطعامها مكروه بلفظ من المشعرة بابتداء الغاية أي: ينشىء المكر إثر كشف الضراء لا يمهل ذلك. وبلفظ إذا الفجائية الواقعة جواباً لإذا الشرطية، أي في وقت إذاقة الرحمة فاجأوا بالمكر. ولما كانت هذه الجملة كما قلنا تتضمن سرعة المكر منهم قيل: قل الله أسرع مكراً فجاءت أفعل التفضيل. ومعنى وصف المكر بالأسرعية: أنه تعالى قبل أن يدبروا مكائدهم قضى بعقابكم، وهو موقعه بكم، واستدرجكم بإمهاله. قال ابن عطية: أسرع من سرع، ولا يكون من أسرع يسرع، حكى ذلك أبو علي. ولو كان من أسرع لكان شاذاً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في نار جهنم لهي أسود من القار " وما حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم فليس بشاذ انتهى. وقيل: أسرع هنا ليست للتفضيل، وحكاية ذلك عن أبيّ على هو مذهب.

السابقالتالي
2