الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيۤ آيَاتِنَا قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ }

لما حكى تمرد المشركين بيّن هنا أنهم في ذلك لاهون ببطرهم وازدهائهم بالنعمة والدَّعة فأنساهم ما هم فيه من النعمة أن يتوقعوا حدوث ضده فتفننوا في التكذيب بوعيد الله أفانين الاستهزاء، كما قال تعالىوذرني والمكذبين أولي النّعمة ومهِّلهم قليلاً } المزمل 11. وجاء الكلام على طريقة الحكاية عن حالهم، والمُلقَى إليه الكلام هو النبي صلى الله عليه وسلم والمُؤمنون. وفيه تعريض بتذكير الكفار بحال حلول المصائب بهم لعلهم يتذكرون، فيعدوا عدة الخوف من حلول النقمة التي أنذرهم بها في قولهفانتظروا } يونس 20 كما في الحديث " تَعَرَّف إلى الله في الرخاء يَعْرِفْك في الشدة " فالمراد بـ { الناس } الناس المعهودون المتحدث عنهم بقرينة السياق على الوجهين المتقدمين في قوله تعالىوإذا مَس الإنسان الضر دعانا لجنبه } يونس 12. وقد قيل إن الآية تشير إلى ما أصاب قريشاً من القحط سبعَ سنين بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ثم كَشف الله عنهم القحط وأنزل عليهم المطر، فلما حيوا طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدون له. والقحط الذي أصاب قريشاً هو المذكور في سورة الدخان. وقد أنذروا فيها بالبطشة الكبرى. وقال ابن عباس هي بطشة يوم بدر. فتكون هذه الآية قد نزلت بعد انقراض السبع السنين التي هي كسني يوسف وبعد أن حيُوا، فتكون قد نزلت بعد سنة عشر من البعثة أو سنة إحدى عشرة. والإذاقة مستعملة في مطلق الإدراك استعارةً أو مجازاً، كما تقدم في قولهليذوق وبال أمره } في سورة العقود 95. والرحمة هنا مطلقة على أثر الرحمة، وهو النعمة والنفع، كقولهوينشر رحمته } الشورى 28. والضراء الضر. والمس مستعمل في الإصابة. والمعنى إذا نالت الناس نعمة بعد الضر، كالمطر بعد القحط، والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض. وإذا في قوله { إذا لهم مكرٌ } للمفاجأة، وهي رابطة لجواب إذا الشرطية لوقوعه جملة اسمية وهي لا تصلح للاتصال بإذا الشرطية التي تلازمها الأفعال إن وقعت ظرفاً ثم إن وقعت شرطاً فلا تصلح لأن تكون جواباً لها، فلذلك أدخل على جملة الجواب حرف إذا الفجائية، لأن حرف المفاجأة يدل على البِدار والإسراع بمضمون الجملة، فيُفيد مُفاد فاء التعقيب التي يؤتى بها الربط جواب الشرط بشرطه، فإذا جاء حرف المفاجأة أغنى عنها. والمكرُ حقيقته إخفاء الإضرار وإبرَازه في صورة المسألة، وقد تقدم عند قوله تعالىومكروا ومكر الله } في سورة آل عمران 54. وفي من قوله { في آياتنا } للظرفية المجازية المرادُ منها الملابسة، أي مكرهم المصاحب لآياتنا. ومعنى مكرهم في الآيات أنهم يمكرون مكراً يتعلق بها، وذلك أنهم يوهمون أن آيات القرآن غير دالة على صدق الرسول ويزعمون أنه لو أنزلت عليه آية أخرى لآمنوا بها وهم كاذبون في ذلك وإنما هم يكذبونه عناداً ومكابرة وحفاظاً على دينهم في الشرك.

السابقالتالي
2