الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } * { لِّلطَّاغِينَ مَآباً } * { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً }

يجوز أن تكون جملة { إن جهنم كانت مرصاداً } في موضع خبر ثان لـــ { إنّ } من قولهإن يوم الفصل كان ميقاتاً } النبأ 17 والتقدير إن يوم الفصل إنَّ جهنم كانت مرصاداً فيه للطاغين، والعائد محذوف دل عليه قوله { مرصاداً } أي مرصاداً فيه، أي في ذلك اليوم لأن معنى المرصاد مقترب من معنى الميقات إذ كلاهما محدد لجزاء الطاغين. ودخول حرف إنَّ في خبر إن يفيد تأكيداً على التأكيد الذي أفاده حرف التأكيد الداخل على قوله { يوم الفصل } على حد قول جرير
إنّ الخليفة إنَّ الله سربَله سِربال مُلْك به تُزجَى الخَواتِيم   
ومنه قوله تعالىإن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن اللَّه يفصل بينهم يوم القيامة } كما تقدم في سورة الحج 17، وتكون الجملة من تمام ما خوطبوا به بقولهيوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً } النبأ 18. والتعبير بــــ«الطّاغين» إظهار في مقام الإِضمار للتسجيل عليهم بوصف الطغيان لأن مقتضى الظاهر أن يقول «لكم مئاباً». ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً عن جملةإن يوم الفصل كان ميقاتاً } النبأ 17 وما لحق بها لأن ذلك مما يثير في نفوس السامعين تطلّب ماذا سيكون بعد تلك الأهوال فأجيب بمضمون { إن جهنم كانت مرصاداً } الآية. وعليه فليس في قوله { للطاغين } تخريج على خلاف مقتضى الظاهر. وابتدىء بذكر جهنم لأن المقام مقام تهديد إذ ابتدئت السورة بذكر تكذيب المشركين بالبعث ولما سنذكره من ترتيب نظم هذه الجمل. وجهنم اسم لدار العذاب في الآخرة. قيل وهو اسم مُعرَّب فلعله معرب عن العبرانية أو عن لغة أخرى سامية، وقد تقدم عند قوله تعالىفحسبه جهنم ولبئس المهاد } في سورة البقرة 206. والمرصاد مكان الرصد، أي الرقابة، وهو بوزن مِفعال الذي غلب في اسم آلة الفعل مثل مِضمار للموضع الذي تضُمَّر فيه الخيل، ومنهاج للموضع الذي ينهج منه. والمعنى أن جهنم موضع يرصد منه الموَكّلون بها، ويترقبون من يزجى إليها من أهل الطغيان كما يترقب أهل المرصاد من يَأتيه من عدوّ. ويجوز أن يكون مرصاد مصدراً على وزن المفعال، أي رصداً. والإِخبار به عن جهنم للمبالغة حتى كأنها أصل الرصد، أي لا تفلت أحداً ممن حق عليهم دخولها. ويجوز أن يكون مرصاد زنة مبالغة للراصد الشديد الرصد مثل صفة مغيار ومعطار، وصفت به جهنم على طريقة الاستعارة ولم تلحقه ها التأنيث لأن جهنم شبهت بالواحد من الرصد بتحريك الصاد، وهو الواحد من الحرس الذي يقف بالمرصد إذ لا يكون الحارس إلا رجلاً. ومتعلق { مرصاداً } محذوف دل عليه قوله { للطاغين مئاباً }. والتقدير مرصاداً للطاغين، وهذا أحسن لأن قرائن السورة قِصارٌ فيحسن الوقف عند { مرصاداً } لتكون قرينة. ولك أن تجعل { للطاغين } متعلقاً بـــ { مرصاداً } وتجعل متعلق { مئاباً } مقدراً دل عليه { للطاغين } فيكون كالتضمين في الشعر إذ كانت بقيةً لِمَا في القرينة الأولى في القرينة المُوالية فتكون القرينة طويلة.

السابقالتالي
2