الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً }

في الآية مسائل: المسألة الأولى: في بيان وجه النظم. فنقول: إنه تعالى لما بين أن الناس فريقان منهم من يريد بعمله الدنيا فقط وهم أهل العقاب والعذاب، ومنهم من يريد به طاعة الله وهم أهل الثواب. ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة: أولها: إرادة الآخرة. وثانيها: أن يعمل عملاً ويسعى سعياً موافقاً لطلب الآخرة. وثالثها أن يكون مؤمناً لا جرم فصل في هذه الآية تلك المجملات فبدأ أولاً بشرح حقيقة الإيمان، وأشرف أجزاء الإيمان هو التوحيد ونفي الشركاء والأضداد فقال: { لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ } ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكون المقدم عليها، والمشتغل بها ساعياً سعياً يليق بطلب الآخرة، وصار من الذين سعد طائرهم وحسن بختهم وكملت أحوالهم. المسألة الثانية: قال المفسرون: هذا في الظاهر خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في المعنى عام لجميع المكلفين كقوله:يأيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء } [الطلاق: 1] ويحتمل أيضاً أن يكون الخطاب للإنسان كأنه قيل: أيها الإنسان لا تجعل مع الله إلهاً آخر، وهذا الاحتمال عندي أولى، لأنه تعالى عطف عليه قوله:وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ } إلى قوله:إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } [الإسراء: 23] وهذا لا يليق بالنبي عليه السلام، لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده فعلمنا أن المخاطب بهذا هو نوع الإنسان. المسألة الثالثة: معنى الآية أن من أشرك بالله كان مذموماً مخذولاً، والذي يدل على أن الأمر كذلك وجوه: الأول: أن المشرك كاذب والكاذب يستوجب الذم والخذلان. الثاني: أنه لما ثبت بالدليل أنه لا إله ولا مدبر ولا مقدر إلا الواحد الأحد، فعلى هذا التقدير تكون جميع النعم حاصلة من الله تعالى، فمن أشرك بالله فقد أضاف بعض تلك النعم إلى غير الله تعالى، مع أن الحق أن كلها من الله، فحينئذ يستحق الذم، لأن الخالق تعالى استحق الشكر بإعطاء تلك النعم فلما جحد كونها من الله، فقد قابل إحسان الله تعالى بالإساءة والجحود والكفران فاستوجب الذم وإنما قلنا إنه يستحق الخذلان، لأنه لما أثبت شريكاً لله تعالى استحق أن يفوض أمره إلى ذلك الشريك، فلما كان ذلك الشريك معدوماً بقي بلا ناصر ولا حافظ ولا معين. وذلك عين الخذلان. الثالث: أن الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة، فمن أثبت الشريك فقد وقع في جانب النقصان واستوجب الذم والخذلان، واعلم أنه لما دل لفظ الآية على أن المشرك مذموم مخذول وجب بحكم الآية أن يكون الموحد ممدوحاً منصوراً، والله أعلم. المسألة الرابعة: القعود المذكور في قوله: { فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } فيه وجوه: الأول: أن معناه: المكث أي فتمكث في الناس مذموماً مخذولاً، وهذه اللفظة مستعملة في لسان العرب والفرس في هذا المعنى، فإذا سأل الرجل غيره ما يصنع فلان في تلك البلدة فيقول المجيب: هو قاعد بأسوأ حال معناه: المكث سواء كان قائماً أو جالساً.

السابقالتالي
2