الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } * { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } * { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }

لما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة وأهل النار، وبيّن عدم استوائهم في شيء من الأشياء ذكر تعظيم كتابه الكريم، وأخبر عن جلالته، وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب، وترقّ له الأفئدة، فقال { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـٰشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } أي من شأنه، وعظمته، وجودة ألفاظه، وقوّة مبانيه، وبلاغته، واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب أنه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض لرأيته مع كونه في غاية القسوة، وشدّة الصلابة، وضخامة الجرم خاشعاً متصدعاً، أي متشققاً من خشية الله سبحانه، حذراً من عقابه، وخوفاً من أن لا يؤدي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله، وهذا تمثيل وتخييل يقتضي علوّ شأن القرآن وقوّة تأثيره في القلوب، ويدلّ على هذا قوله { وَتِلْكَ ٱلأمْثَـٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فيما يجب عليهم التفكر فيه ليتعظوا بالمواعظ، وينزجروا بالزواجر، وفيه توبيخ، وتقريع للكفار حيث لم يخشعوا للقرآن، ولا اتعظوا بمواعظه، ولا انزجروا بزواجره، والخاشع الذليل المتواضع. وقيل الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أي لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت، ولتصدّع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك، وثبتناك له، وقوّيناك عليه، فيكون على هذا من باب الامتنان على النبيّ صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه ثبته لما لا تثبت له الجبال الرواسي. ثم أخبر سبحانه بربوبيته وعظمته، فقال { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } وفي هذا تقرير للتوحيد ودفع للشرك { عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ } أي عالم ما غاب من الإحساس وما حضر، وقيل عالم السرّ والعلانية، وقيل ما كان وما يكون، وقيل الآخرة والدنيا، وقدّم الغيب على الشهادة لكونه متقدّماً وجوداً { هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } قد تقدّم تفسير هذين الاسمين { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } كرره للتأكيد والتقرير لكون التوحيد حقيقاً بذلك { ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ } أي الطاهر من كل عيب، المنزّه عن كل نقص، والقدس بالتحريك في لغة أهل الحجاز السطل لأنه يتطهر به، ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء. قرأ الجمهور { القدّوس } بضم القاف. وقرأ أبو ذرّ، وأبو السماك بفتحها، وكان سيبويه يقول سبوح قدّوس بفتح أوّلهما، وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابياً فصيحاً يقرأ { القدّوس } بفتح القاف. قال ثعلب كل اسم على فعول فهو مفتوح الأوّل إلاّ السبوح والقدّوس، فإن الضم فيهما أكثر، وقد يفتحان { ٱلسَّلَـٰمُ } أي الذي سلم من كل نقص وعيب، وقيل المسلم على عباده في الجنة، كما قالسَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } يۤس 58 وقيل الذي سلم الخلق من ظلمه، وبه قال الأكثر، وقيل المسلم لعباده، وهو مصدر وصف به للمبالغة { ٱلْمُؤْمِنُ } أي الذي وهب لعباده الأمن من عذابه، وقيل المصدّق لرسله بإظهار المعجزات، وقيل المصدّق للمؤمنين بما وعدهم به من الثواب، والمصدّق للكافرين بما أوعدهم به من العذاب، يقال أمنه من الأمن وهو ضدّ الخوف، ومنه قول النابغة

السابقالتالي
2 3