الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

{ وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ } وهو الحكم بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء { إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ } أي: على ألسنة رسله بأن في اتباعهم النجاة والسلامة، أي: فوفى به وأنجز { وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } أي: ووعدتكم وعد الباطل، وهو أن لا بعث ولا جزاء. ولئن كان، فالأصنام شفعاؤكم. ولم يصرح ببطلانه لدلالة قوله: { فَأَخْلَفْتُكُمْ } عليه. والإخلاف مستعار لعدم تحقق ما أخبر به وكذبه، أو مشاكلة. وفي الآية من الإيجاز البليغ شبه الاحتباك. حيث حذف أولاً (فوفى به) لدلالة قوله بعدُ { فَأَخْلَفْتُكُمْ } عليه لأنه مقابله، وحذف ثانياً (وعد الباطل) لدلالة { وَعْدَ ٱلْحَقِّ }.

{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } أي حجة وبرهان { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي } أي: أسرعتم لطاعتي بمجرد ذلك، أي: وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه { فَلاَ تَلُومُونِي } أي: بوعدي إياكم، إذ لم يكن بطريق القسر { وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } أي: حيث استجبتم لي باختياركم، حين دعوتكم بلا حجة ولا دليل. ولم تستجيبوا لربكم، إذ دعاكم دعوة الحق المقرونة بالبراهين والحجج.

قال القاشانيّ: لما ظهر سلطان الحق على شيطان الوهم وتنوّر بنوره، أسلم وأطاع وصار محقاً عالماً بأن الحجة للهِ في دعوته للخلق إلى الحق، لا له. ودعوته إلى الباطل بتسويل الحكام وتزيين الحياة الدنيا عليهم - واهية فارغةعن الحجة. وأقرّ بأن وعده تعالى بالبقاء بعد خراب البدن والثواب والعقاب عند البعث، حقٌّ قد وفى به. ووعدي بأن ليس إلا الحياة الدنيا باطل اختلقته. فاستحقاق اللوم ليس إلاّ لمن قبلَ الدعوة الخالية عن الحجة فاستجاب لها. وأعرض عن الدعوة المقرونة بالبرهان فلم يستجب لها. انتهى.

وحكي في (الإكليل) عن ابن الفرس: أن بعضهم انتزع من هذا إبطال التقليد في الاعتقاد. قال: وهو انتزاع حسن. لأنهم اتبعوا الشيطان بمجرد دعواه، ولم يطلبوا منه برهاناً. فحكى الله قوله تقبيحاً لذلك الفعل منهم. انتهى.

{ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ } أي: بمغيثكم ومنجيكم من العذاب { وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } أي: مما أنا فيه. قال ابن الأعرابيّ: الصارخ: المستغيث، والمصْرِخ: المغيث، يقال: صرخ فلان إذا استغاث وقال: واغوثاه! وأصرخته أغثته. فالهمزة للسلب. يعني أزلت صراخه، وهو مدّ الصوت. { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } أي: كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم - أي: في الدنيا - يعني: جحدت أن أكون شريكاً لله عز وجل، وتبرأت منه ومنكم فلم يبق بيني وبينكم علاقة كقوله تعالى:وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ } [فاطر: 14] وقوله:وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف: 6] وقوله:كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [مريم: 82].

{ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ابتداء كلام منه تعالى، أو تتمة كلام الشيطان.

قال الزمخشري: وإنما حكى الله عزّ وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت، ليكون لطفاً للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم.

ولما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال، عطف بمآل السعداء بقوله سبحانه:

{ وَأُدْخِلَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ... }.