الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } * { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } * { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } * { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً } * { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً }

{ قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } أي: خالفوا أمري وردوا عليّ ما دعوتهم إليه من الهدى والرشاد، { وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } أي: رؤساءهم المتبوعين، أهل المال والجاه المعرضين عن الحق الذين غرتهم أموالهم وأولادهم، فهلكوا بسببهما، وخسروا سعادة الدارين.

{ وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } أي: متناهياً كبره، فإن (الكبار) أكبر من (الكبير).

{ وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } قال قتادة: كانت آلهة تعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب بعد ذلك.

قال: فكان (ود) لكلب بدومة الجندل، وكانت (سواع) لهذيل، وكان (يغوث) لبني غطيف من مراد بالجرف، وكان (يعوق) لهمدان، وكان (نسر) لذي الكلاع من حمير.

وقال (في رواية): والله ما عدا - أي: كل منها - خشبة أو طينة أو حجراً.

وقال ابن جرير: كان من خبرهم - فيما بلغنا - من محمد بن قيس قال: كانوا قوماً صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصورهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم.

وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب، بعد: أما (ود)، فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما (سواع) فكانت لهذيل، وأما (يغوث) فكانت لمراد ثم لبني غُطيف بالجرف عند سبأ، وأما (يعوق) فكانت لهمدان، وأما (نسر) فكانت لحمير لآل ذي الكَلاَع: أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا. فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، وتَنسَّخَ العلم، عبدت.

تنبيهات

الأول: قال الرازي: في انتقالها عن قوم نوح إلى العرب. إشكال؛ لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان، فكيف بقيت تلك الأصنام، وكيف انتقلت إلى العرب. ولا يمكن أن يقال: إن نوحاً عليه السلام وضعها في السفينة وأمسكها، لأنه عليه السلام إنما جاء لنفيها وكسرها، فكيف يمكن أن يقال: إنه وضعها في السفينة سعياً منه في حفظها؟ انتهى كلامه.

ونحن نقول: إن جوابه بديهي، وهو أن انتقالها إلى العرب بواسطة نقل أحوال قوم نوح وأبنائهم وعوائدهم، على ألسنة الرحّل والسمّار؛ لأن سيرة القرن المتقدم في العصر المتأخر، وسنة الخالف أن يؤرخ السالف. وجليّ أن النفس أميل إلى الجهل منها إلى العلم، لاسيما إذا زين له المنكر بصفة تميل إليها، فتكون ألصق به. وهكذا كان بعد انقراض العلم وحملته، أن حدث ما حدث من عبادتها، كما أشارت إليه رواية ابن عباس عند البخاري: حتى إذا هلك أولئك، وتنسخ العلم، عبدت.

السابقالتالي
2