الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }

هذا مثَل ضربه الله للكافرين والمؤمنين أو لرجلين كافر ومؤمن، لأنه جاء مفرعاً على قولهإن الكافرون إلاّ في غرور } الملك 20 وقولهبل لَجُّوا في عتوّ ونفور } الملك 21 وما اتصل ذلك به من الكلام الذي سيق مساق الحجة عليهم بقولهأمَّنْ هذا الذي هو جندٌ لكم } الملك 20أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه } الملك 21، وذلك مما اتفق عليه المفسرون على اختلاف مناحيهم ولكن لم يعرج أحد منهم على بيان كيف يتعين التمثيل الأول للكافرين والثاني للمؤمنين حتى يظهر وجه إلزام الله المشركين بأنهم أهل المثل الأول مثَلِ السوء، فإذا لم يتعين ذلك من الهيئة المشبهة لم يتضح إلزام المشركين بأن حالهم حال التمثيل الأول، فيخال كل من الفريقين أن خصمه هو مضرب المثل السوء. ويتوهم أن الكلام ورد على طريقة الكلام المُنصِف نحووإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } سبأ 24 بذلك ينبو عنه المقام هنا لأن الكلام هنا وارد في مقام المحاجة والاستدلال وهنالك في مقام المتاركة أو الاستنزال. والذي انقدح لي أن التمثيل جرى على تشبيه حال الكافر والمؤمن بحالة مشي إنسان مختلفة وعلى تشبيه الدين بالطريق المسلوكة كما يقتضيه قوله { على صراط مستقيم } فلا بد من اعتبار مَشي المكِبّ على وجهه مشياً على صراط مُعْوجّ، وتعين أن يكون في قوله { مكباً على وجهه } استعارة أخرى بتشبيه حال السالك صراطاً معوجّاً في تأمله وترسُّمه آثار السير في الطريق غير المستقيم خشية أن يضلّ فيه، بحال المكِبّ على وجهه يتوسم حال الطريق وقرينة ذلك مقابلته بقوله { سَوِيّاً } المشعر بأن { مُكباً } أطلق على غير السوي وهو المنحني المطاطىء يتوسم الآثار اللائحة من آثار السائرين لعله يعرف الطريق الموصلة إلى المقصود. فالمشرك يتوجه بعبادته إلى آلهة كثيرة لا يدري لعل بعضها أقوى من بعض وأعطفُ على بعض القبائل من بعض، فقد كانت ثقيف يعبدون اللات، وكان الأوس والخزرج يعبدون مناة ولكل قبيلة إلٰه أو آلهة فتقسموا الحاجات عندها واستنصر كل قوم بآلهتهم وطمعوا في غنائها عنهم وهذه حالة يعرفونها فلا يمترون في أنهم مضرب المثل الأول، وكذلك حال أهل الإِشراك في كل زمان، ألا تسمع ما حكاه الله عن يوسف عليه السلام من قولهأأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } يوسف 39. ويُنَور هذا التفسير أنه يفسره قوله تعالىوأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } الأنعام 153 وقولهقل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين } يوسف 108، فقابل في الآية الأولى الصراط المستقيم المشبه به الإِسلام بالسُّبل المتفرقة المشبه بها تعداد الأصنام، وجعل في الآية الثانية الإسلام مشبهاً بالسبيل وسالكُه يدعو ببصيرة ثم قابل بينه وبين المشركين بقوله

السابقالتالي
2