الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ }

{ يُلْقُونَ } أي الأفاكون { السَّمْعَ } أي سمعهم إلى الشياطين، وإلقاء السمع مجاز عن شدة الإصغاء للتلقي فكأنه قيل: يصغون أشد إصغاء إلى الشياطين فيتلقون منهم ما يتلقون { وَأَكْثَرُهُمُ } أي الأفاكين { كَـٰذِبُونَ } فيما يقولونه من الأقاويل، والأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قلما يصدقون في أقوالهم وإنما هم في أكثرها كاذبون ومآله وأكثر أقوالهم كاذبة لا باعتبار ذواتهم حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون أقلهم صادقين على الإطلاق ويلتزم لذلك كون الأكثر بمعنى الكل. وليس معنى الأفاك من لا ينطق إلا بالإفك حتى يمتنع منه الصدق بل من يكثر الإفك فلا ينافيه أن يصدق نادراً في بعض الأحايين، وجوز أن يكون السمع بمعنى المسموع وإلقاؤه مجاز عن ذكره أن يلقي الأفاكون إلى الناس المسموع من الشياطين وأكثرهم كاذبون فيما يحكون عن الشياطين ولم يرتضه بعضهم لبعده أو لقلة جدواه على ما قيل.

واختلف في سبب كون أكثر أقوالهم كاذبة فقيل: هو بعد البعثة كونهم يتلقون منهم ظنوناً وأمارات إذ ليس لهم من علم الغيب نصيب وهم محجوبون عن خبر السماء ولعدم صفاء نفوسهم قلما تصدق ظنونهم ومع ذلك يضم الأفاكون إليها لعدم وفائها بمرادهم على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها الواقع، وقبل البعثة إذ كانوا غير محجوبين عن خبر السماء وكانوا يسمعون من الملائكة عليهم السلام ما يسمعونه من الأخبار الغيبية يحتمل أن يكون كثرة غلط الأفاكين في الفهم لقصور فهمهم عنهم، ويحتمل أن يكون ضمهم إلى ما يفهمونه من الحق أشياء من عند أنفسهم لا يطابق أكثرها الواقع، ويحتمل أن يكون كثرة غلط الشياطين الذين يوحون إليهم في الفهم عن الملائكة عليهم السلام لقصور فهمهم عنهم، ويحتمل أن يكون ضم الشياطين إلى ما يفهمونه من الحق من الملائكة عليهم السلام أشياء من عند أنفسهم لا يطابق أكثرها الواقع، ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر.

وقيل: هو قبل البعثة يحتمل أن يكون أحد هذه الأمور وأما بعد البعثة فهو كثرة خلطهم الكذب فيما تخطفه الشياطين عند استراقهم السمع من الملائكة ويلقونه إليهم. فقد أخرج البخاري ومسلم وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: " سأل أناس النبـي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: إنهم ليسوا بشيء فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً قال تلك / الكلمة من الحق يحفظها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة " وقيل: هو قبل البعثة وبعدها كثرة خلط الأفاكين الكذب فيما يتلقونه من الشياطين، أما كثرته قبل البعثة فلظاهر الخبرالمذكور، وأما كثرته بعد البعثة فلما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبـي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتستمع ثم تنزل إلى الكهنة فتخبرهم فتحدث الكهنة بما أنزلت به الشياطين من السمع وتخلط به الكهنة كذباً كثيراً فيحدثون به الناس فأما ما كان من سمع السماء فيكون حقاً وأما ما خلطوه به من الكذب فيكون كذباً، ولا يخفى أن القول بأن الشياطين بعد البعثة يلقون ما يسترقونه من السمع إلى الكهنة غير مجمع عليه، ومن القائلين به من يجوز أن يكون ضمير { يُلْقُون } في الآية راجعاً إلى الشياطين، والمعنى يلقي الشياطين المسموع من الملأ الأعلى قبل أن يرجموا من بعض المغيبات إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم، إذ لا يسمعونهم على نحو ما تكلمت به الملائكة عليهم السلام لشرارتهم أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم، وقيل: المعنى عليه ينصت الشياطين ويستمعون إلى الملأ الأعلى قبل الرجم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إلى أوليائهم بعد لشرارتهم أو لأنهم لا يسمعون في أنفسهم أو لا يسمعون أولياءهم بعد ذلك السمع كلام الملائكة عليهم السلام على وجهه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9