الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } * { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } * { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }

هذا استئناف ابتدائي. وهو انتقال من ذكر ما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى توجيه خطاب مستأنف إليه، فبعد أن حكي في هذه السورة ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مما خفي عليه من الشؤون المتعلقة به من اتِّباع متابعين وإعراض معرضين، انتقل إلى تلقينه ما يُرد على الذين أظهروا له العناد والتورك. ويجوز أن يكون { قل إني لا أملك } الخ، تكريراً لجملةقل إنما أدعو ربي } الجن 20 على قراءة حمزة وعاصم وأبي جعفر. والضر إشارة إلى ما يتوركون به من طلب إنجاز ما يتوعدهم به من النصر عليهم. وقوله { ولا رشداً } تتميم. وفي الكلام احتباك لأن الضر يقابله النفع، والرشد يقابله الضلال، فالتقدير لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ولا ضلالاً ولا رشداً. والرَّشَد بفتحتين مصدر رشد، والرُّشْد، بضم فسكون الاسم، وهو معرفة الصواب، وقد تقدم قريباً في قولهيهدي إلى الرشد } الجن 2. وتركيب { لا أملك لكم } معناه لا أقدر قدرة لأجلكم على ضرّ ولا نفع، وقد تقدم عند قوله تعالىوما أملك لك من الله من شيء } في سورة الممتحنة 4 وتقدم أيضاً في سورة الأعراف. وجملتا { قل إني لن يجيرني } إلى { ملتحداً } معترضتان بين المستثنى منه والمستثنى، وهو اعتراضُ ردٍّ لما يحاولونه منه أن يترك ما يؤذيهم فلا يذكر القرآنُ إبطال معتقدهم وتحقير أصنامهم، قال تعالىوإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائتِ بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلاّ ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } يونس 15. والملتحد اسم مكان الالتحاد، والالتحاد المبالغة في اللحد، وهو العدول إلى مكان غير الذي هو فيه، والأكثر أن يطلق ذلك على اللجأ، أي العياذ بمكان يعصمه. والمعنى لَن أجد مكاناً يعصمني. و { من دونه } حال من { ملتحداً } ، أي ملتحداً كائناً من دون الله أي بعيداً عن الله غير داخل من ملكوته، فإن الملتحد مكان فلما وصف بأنه من دون الله كان المعنى أنه مكان من غير الأمكنة التي في ملك الله، وذلك متعذر، ولهذا جاء لنفي وجدانه حرف { لن } الدال على تأييد النفي. و { مِن } في قوله { مِن دونه } مزيدة جارة للظرف وهو دون. وقوله { إلاّ بلاغاً من الله ورسالاته } استثناء منقطع من { ضرَّاً } و { رشداً } ، وليس متصلاً لأن الضر والرشد المنفيين في قوله { لا أملك لكم ضراً ولا رشداً } هما الضر والرشد الواقعان في النفس بالإلجاء. ويجوز أن يكون مع ذلك استثناء من { ملتحداً } ، أي بتأويل { ملتحداً } بمعنى مخلص أو مأمن.

السابقالتالي
2