الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى أنّ الطلاق مرّتان، وأنّه يكون بلا عوض وقد يكون بعوض قال: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } أي فإن طلّقها بعد المرّتين طلقة ثالثة - وهي التسريح بإحسان - فلا يملك مراجعتها بعد ذلك إلاّ إذا تزوّجت بآخر زواجاً صحيحاً مقصوداً، حصل به ما يراد بالزواج من الغشيان. قال الأستاذ الإمام: عبّر عن الطلقة الثالثة (بأن) دون (إذا) للإشعار بأنّها لا ينبغي أن تقع مطلقاً، كأنّه تعالى لا يرضى أن يتجاوز الطلاق المرّتين، والنكاح له طلاقان العقد وما وراء العقد، وهو المقصود منه الذي يكنّى عنه بالدخول. وقد ذهب سعيد بن المسيّب إلى إنّ الحلّ يحصل بمجرّد العقد، وهو خلاف ما عليه الجماهير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إذ قالوا لا بدّ من المخالطة الزوجية أخذاً من إسناد النكاح إلى المرأة - مع العلم بأنّ المرأة لا تتولّى العقد، ومن تسمية من تنكح زوجاً. وهذا هو الموافق لحديث العسيلة الصحيح والمنطبق على الحكمة في منع المراجعة.

روى الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث عائشة قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّي كنت عند رفاعة فطلّقني فبتّ طلاقي، فتزوّجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلاّ مثل هدبة الثوب، فتبسّم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " والعسيلة كناية عن أقلّ ما يكون من تغشّي الرجل للمرأة. وذكر السيوطي في أسباب النزول إنّ هذه الآية نزلت في امرأة رفاعة هذه واسمها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك ورفاعة بن وهب بن عتيك ابن عمّها. وساق الحديث من رواية ابن المنذر عن مقاتل بن حيّان وفيه إنّها قالت إنه طلّقني - أي عبد الرحمن زوجها الثاني - قبل أن يمسني أفأرجع إلى الأوّل؟ قال: " لا حتّى يمسّ ".

وقال المفسّرون والفقهاء في حكمة ذلك: إنّه إذا علم الرجل أنّ المرأة لا تحلّ له بعد أن يطلّقها ثلاث مرّات إلاّ إذا نكحت زوجاً غيره، فإنّه يرتدع؛ لأنّه ممّا تأباه غيرة الرجال وشهامتهم، ولا سيّما إذا كان الزوج الآخر عدوّاً أو مناظراً للأوّل، ولنا أن نزيد على ذلك: إن الذي يطلّق زوجته ثمّ يشعر بالحاجة إليها فيرتجعها نادماً على طلاقها، ثمّ يمقت عشرتها بعد ذلك فيطلّقها، ثمّ يبدو له ويترجّح عنده عدم الإستغناء عنها فيرتجعها ثانية، فإنّه يتمّ له بذلك إختبارها، لأنّ الطلاق الأوّل ربّما جاء عن غير رويّة تامّة ومعرفة صحيحة منه بمقدار حاجته إلى امرأته، ولكن الطلاق الثاني لا يكون كذلك، لأنّه لا يكون إلاّ بعد الندم على ما كان أوّلا والشعور بأنّه كان خطأ، ولذلك قلنا إنّ الاختبار يتمّ به فإذا هو راجعها بعده كان ذلك ترجيحاً لإمساكها على تسريحها، ويبعد أن يعود إلى ترجيح التسريح بعد أن رآه بالاختبار التامّ مرجوحاً، فإن هو عاد وطلّق ثالثة، كان ناقص العقل والتأديب، فلا يستحقّ أن تجعل المرأة كرة بيده يقذفها متى شاء تقلّبه، ويرتجعها متى شاء هواه، بل يكون من الحكمة أن تبين منه ويخرج أمرها من يده؛ لأنّه علم أن لا ثقة بالتئامها وإقامّتهما حدود الله تعالى.

السابقالتالي
2 3 4