الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

{ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } أي: امتزج به لسريانه فيه، فالباء للمصاحبة، أو هي للسببية، أي: اختلط بسببه حتى خالط بعضه بعضاً، أي: التف بعضه ببعض، والأول أظهر { مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ } من الزروع والثمار والكلأ والحشيش { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا } أي: حسنها وبهجتها { وَٱزَّيَّنَتْ } أي: بأصناف النبات { وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ } أي: متمكنون من تحصيل حبوبها وثمرها وحصدها { أَتَاهَآ أَمْرُنَا } أي: عذابنا { لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً } أي: كالمحصود من أصله { كَأَن لَّمْ تَغْنَ } أي: لم تنبت { بِٱلأَمْسِ } أي: قبيل ذلك الوقت. و (الأمس) مَثَلٌ في الوقت القريب { كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } أي بالأمثلة تقريباً { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي: في معانيها.

تنبيه

قال القاشاني: البغي ضد العدل، فكما أن العدل فضيلة شاملة لجميع الفضائل، وهيأة وحدانية لها، فائضة من نور الوحدة على النفس، فالبغي لا يكون إلا عن غاية الانهماك في الرذائل، بحيث يستلزمها جميعاً، فصاحبها في غاية البعد عن الحق، ونهاية الظلمة، كما قال: " الظلم ظلمات يوم القيامة " فلهذا قال: (عَلَى أَنْفُسِكُمْ) لا على المظلوم، لأن المظلوم سعد به، وشقي الظالم غاية الشقاء، وهو ليس إلا متاع الحياة الدنيا. إذ جميع الإفراطات والتفريطات المقابلة للعدالة تمتعات طبيعية، ولذات حيوانية، تنقضي بانقضاء الحياة الحسية، التي مثلها في سرعة الزوال، وقلة البقاء، هذا المثل الذي مثل به، من تزين الأرض بزخرفها من ماء المطر، ثم فسادها ببعض الآفات سريعاً قبل الانتفاع بنباتها، ثم تتبعها الشقاوة الأبدية، والعذاب الأليم الدائم.

وفي الحديث: " أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة " ؛ لأن صاحبه تتراكم عليه حقوق الناس، فلا تحتمل عقوبته المهل الطويل الذي يحتمله حق الله تعالى.

وسمعت بعض المشايخ يقول: قلما يبلغ الظالم والفاسق أوان الشيخوخة، وذلك لمبارزتهما الله تعالى في هدم النظام المصروف عنايته تعالى إلى ضبطه، ومخالفتهما إياه في حكمته وعدله. انتهى.

ولما ذكر تعالى الدنيا وسرعة تقضيها، رغب في الجنة ودعا إليها، وسماها دار السلام، أي: من الآفات والنقائص، لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معرضاً للآفات كما مر، فقال سبحانه.

{ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ... }.