الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }

قوله تعالى: { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ }: مبتدأٌ، و " كالأعمىٰ " خبره، ثم هذه الكافُ يحتمل أن تكونَ هي نفسَ الخبر، فتقدَّر بـ " مثل " ، تقديرُه: مَثَلُ الفريقين مثلُ الأعمى. ويجوز أن تكون " مثل " بمعنى " صفة " ، ومعنى الكاف معنى مِثْلِ، فيقدَّر مضافٌ محذوفٌ، أي: كمثل الأعمىٰ. وقوله: { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ } يجوز أن/ يكونَ من باب تشبيه شيئين بشيئين، فقابل العمىٰ بالبصَر، والصمم بالسمع وهو من الطِّباق، وأن يكونَ من تشبيهِ شيءٍ واحد بوصفَيْهِ بشيءٍ واحدٍ بوصفَيْهِ، وحينئذٍ يكون قولُه: " كالأعمى والأصمِّ " وقوله " والبصير والسميع " من باب عطف الصفات كقوله:
2650 ـ إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ   ولَيْثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
وقد أحسنَ الزمخشريُّ في التعبير عن ذلك فقال: " شبَّه فريق الكافرين بالأَعْمى والأصمِّ، وفريقَ المؤمنين بالبصير والسميع، وهو من اللَّفِّ والطِّباق، وفيه معنيان: أن يُشَبِّه الفريقين تشبيهين اثنين، كما شبَّه امرؤ القيس قلوبَ الطير بالحَشَف والعُنَّاب، وأن يُشَبِّهَ بالذي جمع بين العمىٰ والصَّمَم، والذي جمع بين البصر والسمع، على أن تكونَ الواوُ في " والأصمِّ " وفي " والسميع " لعطفِ الصفة على الصفةِ كقوله:
2651 ـ..................الـ   صَابحِ فالغانِمِ فالآئِبِ
قلت: يريد بقوله " اللفّ " أنه لفَّ المؤمنين والكافرين اللذين هما مشبهان بقوله " الفريقين " ، ولو فسَّرهما لقال: مَثَلُ الفريق المؤمن كالبصير والسميع، ومثل الكافر كالأعمى والأصم، وهي عبارةٌ مشهورة في علم البيان: لفظتان متقابلتان: اللفُّ والنشر، وأشارَ لقول امرىء القيس وهو:
2652 ـ كأنَّ قلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابِساً   لدى وكرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي
أصلُ الكلامِ: كأن الرَّطْبَ من قلوب الطير: العُنَّابُ، واليابسَ منها: الحَشَفُ، فلفَّ ونشر، واللف والنشر في علم البيان تقسيمٌ كبير، ليس هذا موضعَه.

وأشار بقوله " الصابح فالغانم " إلى قوله:
2653 ـ يا ويحَ زَيَّابَةَ للحارثِ الـ   صابحِ فالغانم فالآئِبِ
وقد تقدَّم ذلك أولَ البقرة وتحريرُه.

فإن قلت: لِمَ قَدَّم تشبيهَ الكافر على المؤمن؟ أجيب بأن المتقدِّمَ ذِكْرُ الكفار فلذلك قدَّم تمثيلهم. فإن قيل: ما الحكمةُ في العدولِ عن هذا التركيب لو قيل: كالأعمى والبصير والأصم والسميع لتتقابلَ كلُّ لفظةٍ مع ضدها، ويظهرَ بذلك التضادُّ؟ أجيب: بأنه تعالىٰ لمَّا ذكر انسدادَ العين أتبعه بانسداد الأذن، ولمَّا ذكر انفتاح العين أتبعه بانفتاح الأذن، وهذا التشبيهُ أحدُ الأقسامِ وهو تشبيهُ أمرٍ معقول بأمرٍ محسوس: وذلك أنه شبَّه عَمَىٰ البصيرة وصَمَمها بعمى البصر وصمم السمع، ذاك متردِّدٌ في ظُلَم الضلالات، كما أن هذا متحيِّز في الطرقات. وهذه فوائد علم البيان.

قوله: { مَثَلاً } تمييز، وهو منقولٌ من الفاعلية، والأصل: هل يَسْتوي مَثَلُهما، كقوله تعالىٰ:وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } [مريم: 4]. وجوَّز ابنُ عطية ـ رحمه اللَّه ـ أن يكون حالاً، وفيه بَعْدٌ صناعةً ومعنى؛ لأنه على معنى " مِنْ " لا على معنىٰ " في ".