الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ }

{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } (الهم): يكون بمعنى القصد والإرادة، ويكون فوق الإرادة ودون العزم، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإزماع عليه، وبالعزم: القصد إلى إمضائه، فهو أول العزيمة. وهذا معنى قولهم: الهم همان: هم ثابت معه عزم وعقد ورضا وهو مذموم مؤاخذ به؛ وهم بمعنى خاطر، وحديث نفس، من غير تصميم، وهو غير مؤاخذ به، لأنه خطور المناهي في الصدور، وتصورها في الأذهان، لا مؤاخذة بها مالم توجد في الأعيان.

روى الشيخان وأهل السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به، أو تعمل به " ورواه الطبراني عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.

فمعنى قوله تعالى: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أي: بمخالطته، أي: قصدتها وعزمت عليها عزماً جازماً، لا يلويها عنه صارف، بعدما باشرت مباديها من المراودة، وتغليق الأبواب، ودعوته إلى الإسراع إليها بقولها: { هَيْتَ لَكَ } مما اضطره إلى الهرب إلى الباب.

ومعنى قوله: { وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي: لولا رؤيته برهان ربه لهمّ بها، كما همت به لتوفر الدواعي. ولكنه رأى من تأييد الله له بالبرهان ما صرف عنه السوء والفحشاء.

قال أبو حيان: ونظيره (قارفت الإثم لولا أن الله عصمك). ولا نقول: إن جواب (لولا) يتقدم عليها، وإن لم يقم دليل على امتناعه، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف فيها، حتى ذهب الكوفيون وأعلام البصريين إلى جواز تقدمه، بل نقول: هو محذوف لدلالة ما قبله عليه، لأن المحذوف في الشرط يقدر من الجنس ما قبله. انتهى.

فالآية حينئذ ناطقة بأنه لم يهمّ أصلاً. وقيل: جواب { لَوْلاۤ } لغشيها ونحوه. فمعنى (الهم) حينئذ ما قاله الإمام الرازي: من أنه خطور الشيء بالبال، أو ميل الطبع، كالصائم في الصيف، يرى الماء البارد، فتحمله نفسه على الميل إليه، وطلب شربه، ولكن يمنعه دينه عنه. وكالمرأة الفائقة حسناً وجمالاً، تتهيأ للشاب النامي القوي، فتقع بين الشهوة والعفة، وبين النفس والعقل، مجاذبة ومنازعة، (فالهم) هنا عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان جواذب الحكمة. وهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحال أشد، كانت القوة على لوازم العبودية أكمل. انتهى.

وكذا قال أبو السعود: إن همه بها بمعنى ميله إليها، بمقتضى الطبيعة البشرية، وشهوة الشباب وقرمه، ميلاً جبليّاً، لا يكاد يدخل تحت التكليف، لا أنه قصدها قصداً اختياريا. ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له، ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين، وهل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه - عليه السلام - تسجيلاً محكماً؟ وإنما عبر عنه بالهم، لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر، بطريق المشاكلة، لا لشبهه به، كما قيل.

السابقالتالي
2 3