الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ }

قوله تعالى: { ولقد همَّت به } الهم بالشيء في كلام العرب: حديث المرء نفسه بمواقعته مالم يواقع. فأما همّ أزليخا، فقال المفسرون: دعته إِلى نفسها واستلقت له. واختلفوا في همِّه بها على خمسة أقوال:

أحدها: أنه كان من جنس همِّها، فلولا أن الله تعالى عصمه لفعل، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسدي، وهو قول عامة المفسرين المتقدمين، واختاره من المتأخرين جماعة منهم ابن جرير، وابن الأنباري. وقال ابن قتيبة: لا يجوز في اللغة: هممت بفلان، وهمّ بي، وأنت تريد: اختلاف الهمَّين. واحتجَ منْ نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر، ويدل عليه ما سنذكره من أمر البرهان الذي رآه. قالوا: ورجوعه عما همّ به من ذلك خوفاً من الله تعالى يمحو عنه سيء الهمِّ، ويوجب له علوَّ المنازل، ويدل على هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إِلى غار، فانطبقت عليهم صخرة، فقالوا: ليذكر كل واحد منكم أفضل عمله. فقال أحدهم: اللهم إِنك تعلم أنه كانت لي بنت عم فراودتها عن نفسها فأبت إِلا بمائة دينار، فلما أتيتها بها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة، أُرعدتْ وقالت: إِن هذا لعملٌ ما عملته قطُّ، فقمت عنها وأعطيتها المائة الدينار، فإن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرِج عنا، فزال ثلث الحجر. والحديث معروف، وقد ذكرته في «الحدائق» فعلى هذا نقول: إِنما همت، فترقَّت همَّتها إِلى العزيمة، فصارت مصرَّة على الزنا. فأما هو، فعارضه ما يعارض البشر من خَطَرَاتِ القلب، وحديث النفس، من غير عزم، فلم يلزمه هذا الهمُّ ذنباً، فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد، فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه، وقد قال صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم أو تعمل " وقال صلى الله عليه وسلم " هلك المصرّون " ، وليس الإِصرار إِلا عزم القلب، فقد فرَّق بين حديث النفس وعزم القلب. وسئل سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بالهمة؟ فقال: إِذا كانت عزماً، ويؤيده الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول الله تعالى: إِذا همّ عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها عليه سيئة " واحتج القاضي أبو يعلى على أن همته لم تكن من جهة العزيمة، وإِنما كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله: «قال معاذ الله إِنه ربي» وقولِه: «كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء» وكل ذلك إِخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية.

السابقالتالي
2 3 4