الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَٰضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }

قوله عز وجل: { والمحصنات } عطف على المحرمات قبل، والتحصن: التمنع، يقال حصن المكان: إذا امتنع، ومنه الحصن، وحصنت المرأة: امتنعت بوجه من وجوه الامتناع، وأحصنت نفسها، وأحصنها غيرها، والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء، وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عز وجل، فتستعمله في الزواج، لأن ملك الزوجة منعة وحفظ، ويستعملون الإحصان في الحرية لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنا، والحرة بخلاف ذلك، ألا ترى إلى قوله هند بنت عتبة للنبي عليه السلام، حين بايعته، وهل تزني الحرة؟ قالحرية منعة وحفظ، ويستعملون الإحصان في الإسلام لأنه حافظ، ومنه قول النبي عليه السلام " الإيمان قَيَّدَ الفتك " ومنه قول الهذلي:
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أمَّ مَالِكٍ   ولكنْ أَحَاطَتْ بالرِّقابِ السَّلاسِلُ
ومنه قول الشاعر:
قالَتْ هَلُمَّ إلى الحَديثِ فَقُلْتُ لا   يَأبى عَلَيْكِ اللَّهُ والإسْلامُ
ومنه قول سحيم:
كَفى الشَّيْبُ والإسْلامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيا   
ومنه قول أبي حية:
رَمَتْني وَسِتْرُ اللّهِ بيني وبينَها   
فإن أحد الأقوال في الستر أنه أراد به الإسلام، ويستعملون الإحصان في العفة، لأنه إذا ارتبط بها إنسان وظهرت على شخص ما وتخلق بها، فهي منعة وحفظ، وحيثما وقعت اللفظة في القرآن فلا تجدها خرج عن هذه المعاني، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض، بحسب موضع وموضع، وسيأتي بيان ذلك في أماكنه إن شاء الله.

فقوله في هذه الآية { والمحصنات } ، قال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري: هن ذوات الأزواج، أي هن محرمات، إلا ما ملكت اليمين بالسبي، من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه، وإن كان لها زوج، وروى أبو سعيد الخدري: أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً إلى أوطاس فلقوا عدواً وأصابوا سبياً لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهن، فنزلت الآية مرخصة، وقال عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن ابن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس أيضاً: معنى { المحصنات } ذوات الأزواج، فهن حرام إلا أن يشترى الرجل الأمة ذات الزوج، فإن بيعها طلاقها، وهبتها طلاقها والصدقة بها طلاقها، وأن تعتق طلاقها، وأن تورث طلاقها، وتطليق الزوج طلاقها، وقال ابن مسعود: إذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحقّ ببعضها، ومذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقاً، ولا طلاق لها إلا الطلاق، وقال قوم: { المحصنات } في هذه الآية العفائف، أي كل النساء حرام، وألبسهن اسم الإحصان، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك، { إلا ما ملكت إيمانكم } قالوا: معناه بنكاح أو شراء، كل ذلك تحت ملك اليمين، قال بهذا القول أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء، ورواه عبيده عن عمر رضي الله عنه، وقال ابن عباس: { المحصنات } العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب.

السابقالتالي
2 3 4