الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

اعتراض بين جملةألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } البقرة 243 إلى آخرها، وجملةألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل } البقرة 246 الآية، قصد به الاستطراد للحث على الإنفاق لوجه الله في طرق البر، لمناسبة الحث على القتال، فإن القتال يستدعي إنفاق المقاتل على نفسه في العُدَّة والمَؤُونة مع الحث على إنفاق الواجد فضلاً في سبيل الله بإعطاء العُدَّة لمن لا عُدَّة له، والإنفاق على المعسرين من الجيش، وفيها تبيين لمضمون جملةواعلموا أن الله سميع عليم } البقرة 244 فكانت ذات ثلاثة أغراض. و { القرض } إسلاف المال ونحوه بنية إرجاع مثله، ويطلق مجازاً على البذل لأجل الجزاء، فيشمل بهذا المعنى بذل النفس والجسم رجاءَ الثواب، ففعل يقرض مستعمل في حقيقته ومجازه. والاستفهام في قوله { من ذا يقرض الله } مستعمل في التحضيض والتهييج على الاتصاف بالخير كأنَّ المستفهم لا يدري مَن هو أهل هذا الخير والجديرُ به، قال طرفة
إذا القوم قالوا مَن فتى خِلْتُ أنني عُنِيتُ فلَم أَكسَلْ ولم أتَبَلَّدِ   
وذا بعد أسماء الاستفهام قد يكون مستعملاً في معناه كما تقول وقد رأيتَ شخصاً لا تعرفه مَن ذا فإذا لم يكن في مقام الكلام شيء يصلح لأن يشار إليه بالاستفهام كان استعمال ذا بعد اسم الاستفهام للإشارة المجازية بأن يَتصوَّر المتكلم في ذهنه شخصاً موهوماً مجهولاً صدر منه فعل فهو يسأل عن تعيينه، وإنما يكون ذلك للاهتمام بالفعل الواقع وتطلُّب معرفة فاعله ولكون هذا الاستعمال يلازم ذكر فعللٍ بعد اسم الإشارة، قال النُّحاة كلهم بصريُّهم وكوفيُّهم بأن ذا مع الاستفهام تتحوّل إلى اسم موصول مبهم غير معهود، فعدُّوه اسمَ موصول، وبوَّب سيبويه في «كتابه» فقال «باب إجرائهم ذَا وحدَه بمنزلة الذي وليس يكون كالذي إلا مع ما ومن في الاستفهام فيكون ذا بمنزلة الذي ويكون ما ــــ أي أو من ــــ حرفَ الاستفهام وإجراؤهم إياه مع ما ــــ أي أو من ــــ بمنزلة اسم واحد» ومثَّله بقوله تعالىماذا أنزل ربكم قالوا خيراً } النحل 30 وبقية أسماء الإشارة مثل اسم ذا عند الكوفيين، وأما البصريون فقصروا هذا الاستعمال على ذا وليس مرادهم أن ذا مع الاستفهام يصير اسم موصول فإنه يكثر في الكلام أن يقع بعده اسم موصول، كما في هذه الآية، ولا معنى لوقوع اسمى موصول صلتهما واحدة، ولكنهم أرادوا أنه يفيد مُفاد اسم الموصول، فيكون ما بعده من فِعل أو وصف في معنى صلة الموصول، وإنما دوَّنوا ذلك لأنهم تناسوا ما في استعمال ذا في الاستفهام من المجاز، فكان تدوينها قليل الجدوى. والوجه أن ذا في الاستفهام لا يخرج عن كونه للإشارة وإنما هي إشارة مجازية، والفعل الذي يجيء بعده يكون في موضع الحال، فوزان قوله تعالى

السابقالتالي
2