الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ }

{ وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ } البشارة: الإخبار بما يظهر سرور المخبر به. ومنه البَشَرَةُ: لظاهر الجلد. وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه. وأمافَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران: 21] فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء - الزائد في غيظ المستهزأ به، وتألمه، واغتمامه - ففيه استعارة أحد الضدين للآخر تَهكُّماً وسخرية.

و { ٱلصَّـٰلِحَٰتِ } ما استقام من الأعمال أي صلح لترتب الثواب عليه. وقد أجمع السلف على أن الإيمان: قولٌ وعملٌ، يزيد وينقص، ثم إنه إذا أطلق دخلت في الأعمال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وستون شعبة - أو بضع وسبعون شعبة - أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ".

وإذا عطف عليه - كما في هذه الآية - فهنا، قد يقال: الأعمال دخلت فيه، وعطفت عطف الخاص على العام. وقد يقال: لم تدخل فيه، ولكن مع العطف - كما في اسم الفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا عطف أحدهما على الآخر فهما صنفان - وهذا التفصيل في الإيمان هو كذلك في لفظ البر، والتقوى، والمعروف، وفي الإثم، والعدوان، والمنكر، تختلف دلالتها في الإفراد والاقتران لمن تدبر القرآن.

وقد بيّن حديث جبريل أن الإيمان أصله في القلب، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله - كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الإسلام علانية والإيمان في القلب ".

وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب ".

فإذا كان الإيمان في القلب، فقد صلح القلب. فيجب أن يصلح سائر الجسد، فلذلك هو ثمرة ما في القلب. فلهذا قال بعضهم: الأعمال ثمرة الإيمان. وصحته، لما كانت لازمةً لصلاح القلب، دخلت في الاسم. كما نطق بذلك الكتاب والسنة في غير موضع، هذا ما أفاده الإمام ابن تيمية رحمه الله.

وقوله تعالى: { أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ } جمع جَنّة: وهي البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه. وإنما سميت: " دار الثواب " بها مع أن فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور، لما أنها مناط نعيمها، ومعظم ملاذها. وجمعها مع التنكير؛ لاشتمالها على جنان كثيرة في كلٍّ منها مراتب ودرجات متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها.

وقوله: { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ } صفة جنات، ثم إن أريد بها الأشجار، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها، فلا بد من تقدير مضاف - أي من تحت أشجارها - وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار، فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق اسم الجنة على الكل، وإنما جيء ذكر الجنات - مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية - لما أن أنزه البساتين، وأكرمها منظراً، ما كانت أشجاره مظللة، والأنهار في خلالها مطَّردة، وفي ذلك النعمة العظمى واللذة الكبرى.

السابقالتالي
2