الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * { وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }

يقول الحق جل جلاله: { إنما مَثَلُ الحياةِ الدنيا } في سرعة تقضيها، وذهاب نعيمها بعد إقبالها، واغترار الناس بها، { كماء أنزلناه من السماءِ فاختلط } أي: اشتبك { به نباتُ الأرضِ } حتى اختلط بعضه ببعض، { مما يأكلُ الناسُ والأنعام } من الزرع والبقول والحشيش، { حتى إذا أخذت الأرضُ زخرفها } أي: زينتها وبهجتها بكمال نباتها، { وازّينتْ } أي: تزينت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة كعروس أخذت من ألوان الثياب والحلي فتزينت بها. { وظن اهلُها } أي: أهل الأرض { أنهم قادِرُون عليها } متمكنون من حصدها ورفع غلتها، { أتاها أمرُنا } أي: بعض الجوائح، كالريح والمطر، { ليلاً أو نهار فجعلناها } أي: زرعها { حصيداً }: شبيهاً بما حصد من أصله، { كأن لم تَغنَ }: كأن لم تُقم { بالأمس } ، أو كأن لم يغنِ زرعها، أي: لم ينبت. والمراد: تشبيه الدنيا في سرعة انقضائها بنبات اخضرَّ ثم صار هشيماً، { كذلك نُفَصِّلُ الآيات لقوم يتفكرون } ويتدبرون عواقب الأموار، فيعلمون أن الدنيا سريعة الزوال، وشيكة التغير والانتقال، فيزهدون فيها ويجعلونها مزرعة لدار السلام، التي هي دار البقاء. وهي التي دعا إليها عبادة بقوله: { والله يدعو إلى الدار السلام } أي: السلامة من الفناء وجميع الآفات، أو دار الله الذي هو السلام. وتخصيص هذا الاسم للتنبيه على ذلك، أو دار يُسلم اللهُ والملائكةُ فيها على من يدخلها، وهي الجنة، { ويهدي من يشاء } توْفِيقَه { إلى صراط مستقيم } ، التي توصل إليها وإلى رضوانه فيها، وهو الإسلام والتدرُّع بلباس التقوى، وفي تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة، وأن المُصِرّ على الضلالة لم يرد الله رشده. قاله البيضاوي. الإشارة: ما ذكر الحق تعالى في هذا الآية هو مثال لمن صرف همته إلى الدنيا، وأتعب نفسه في جمعها، فبنى وشيد وزخرف وغرس، فلما أشرف على التمتع بذلك اختطفته المنية، فلا ما كان أمَّل أدرك، ولا إلى ما فاته من العمل الصالح رجع. وفي بعض خطبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: " أما رأيتم المؤاخَذين على الغرة، المزعَجين بعد الطمأنينة، الذين أقاموا على الشبهات، وجنحوا إلى الشهوات، حتى أتتهم رسلُ ربهم، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا، ولا ما فاتهم رجعوا، قدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفع الندم وقد جف القلم ". وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: " لا تخدعنكم زخارف دنيا دنية عن مراتب جنات عالية، فكأنْ قد كشف القناع، وارتفع الارتياب ولاقى كل امرئ مستقره، وعرف مثواه ومنقلبه ". ورُوي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: شهدت مجلساً من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أتاه رجل أبيض، حسن الشعر واللون، فقال: السلام عليك يا رسول الله، قال:

السابقالتالي
2