الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ }

موقع هذه الآية مثل موقعمن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسنا } البقرة 245 الآية لأنّه لما دعاهم إلى بذل نفوسهم للقتال في سبيل الله فقالوقاتلوا في سبيل الله واعلموا أنّ الله سميع عليم } البقرة 244 شفَّعَهُ بالدعوة إلى بذل المال في الجهاد بقولهمن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } البقرة 245 على طريقة قولهوجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } الأنفال 72، وكانت هذه الآية في قوة التذييل لآية { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } لأنّ صيغة هذه الآية أظهر في إرادة عموم الإنفاق المطلوب في الإسلام، فالمراد بالإنفاق هنا ما هو أعم من الإنفاق في سبيل الله، ولذلك حذف المفعول والمتعلق لقصد الانتقال إلى الأمر بالصدقات الواجبة وغيرها، وستجيء آيات في تفصيل ذلك. وقوله { مما رزقناكم } حث على الإنفاق واستحقاق فيه. وقوله { من قبل أن يأتي يوم } حث آخر لأنه يذكر بأن هنالك وقتاً تنتهي الأعمال إليه ويتعذّر الاستدراك فيه، واليوم هو يوم القيامة، وانتفاء البيع والخلة والشفاعة كناية عن تعذّر التدارك للفائِت، لأن المرء يحصل ما يعوزه بطرق هي المعاوضة المعبر عنها بالبيع، والارتفاق من الغير وذلك بسبب الخلة، أو بسبب توسط الواسطة إلى من ليس بخليل. والخلة ــــــ بضم الخاء ــــــ المودة والصحبة، ويجوز كسر الخاء ولم يقرأ به أحد، وتطلق الخلة بالضم على الصديق تسمية بالمصدر فيستوي فيه الواحد وغيره والمذكر وغيره قال الحماسي
ألاَ أبلِغَا خُلَّتي راشِدا وصنوي قديماً إذا ما اتصل   
وقال كعب أكرِم بها خُلةً، البيت. فيجوز أن يراد هنا بالخلة المودة، ونفي المودة في ذلك لِحصول أثرها وهو الدّفع عن الخليل كقوله تعالىواخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً } لقمان 33، ويجوز أن يكون نفي الخليل كناية عن نفي لازمه وهو النفع كقولهيوم لا ينفع مال ولا بنون } الشعراء 88، قال كعب بن زهير
وقَال كل خليل كنت آمُلُه لا ألهِيَنَّك إني عنك مشغول   
وقرأ الجمهور { لا بيع فيه } ــــــ وما بعده ــــــ بالرفع لأنّ المراد بالبيع والخلة والشفاعة الأجناس لا محالة، إذ هي من أسماء المعاني التي لا آحاد لها في الخارج فهي أسماء أجناس لا نكرات، ولذلك لا يحتمل نفيها إرادة نفي الواحد حتى يحتاج عند قصد التنصيص على إرادة نفي الجنس إلى بناء الاسم على الفتح، بخلاف نحو لا رجلَ في الدار ولا إلَه إلا الله، ولهذا جاءت الرواية في قول إحدى صواحب أم زرع «زوجي كلَيْلِ تِهَامَهْ لا حَرٌّ ولا قُرٌّ ولا مَخَافَةٌ ولا سآمهْ» بالرفع لا غير، لأنّها أسماء أجناس كما في هذه الآية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالفتح لنفي الجنس نصّاً فالقراءتان متساويتان معنى، ومن التكلّف هنا قول البيضاوي إنّ وجه قراءة الرفع وقوع النفي في تقدير جواب لسؤال قائل هل بيعٌ فيه أو خلّة أو شفاعة.

السابقالتالي
2 3