الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }

قوله تعالى: { مِن صَلْصَالٍ }: " مِنْ " لابتداء الغاية أو للتبعيضِ. والصَّلْصال: قال أبو عبيدة: " وهو الطينُ المختلِطُ بالرَّمْل، ثم يَجِفُّ، فيُسمع له صَلْصَلَةٌ، أي: تَصْوِيْت ". وقال الزمخشري: " الطين اليابسُ الذي يُصَلْصِلُ من غيرِ طبخٍ، فإذا طُبِخَ فهو فَخَّار ". وقال أبو الهيثم: " هو صوت اللِّجامِ وما أشبهه كالقَعْقَعَة في الثوبِ ". وقال الزمخشري أيضاً: " قالوا: إذا تَوَهَّمْتَ في صوتِه مَدَّاً فهو صَليل، وإن توهَّمْتَ فيه ترجيعاً فهو صَلْصَلَة. وقيل: هو مِنْ تضعيفِ " صَلِّ: إذا أَنْتَنَ ". انتهى. وصَلْصال هنا بمعنى مُصَلْصِل كزَلْزال بمعنى مُزَلْزِل، ويكون فَعْلال أيضاً مصدراً نحو: الزِّلزال. ويجوز كسرُه أيضاً.

وفي وزن هذا النوعِ أعني ما تكَّررت فاؤه وعينُه خلاف، فقيل: وزنه فَعْفَع، كُرِّرَتْ الفاءُ والعينُ ولا لامَ للكلمة، قاله الفراء وغيرُه. وهو غَلَطٌ لأنَّ أقلَّ الأصولِ ثلاثةٌ: فاء وعين ولام. الثاني: أنّ وزنَه فَعْفَل وهو قولُ الفرّاء. الثالث: أنه فَعَّل بتشديدِ العينِ وأصلُه صَلَّل، فلما اجتمع ثلاثةُ أمثالٍ أبدل الثاني من جنسِ فاءِ الكلمةِ وهو مذهبٌ كوفي. وخصَّ بعضُهم هذا الخلافَ بما إذا لم يختلَّ المعنى بسقوطِه نحو: لَمْلَمَ وكَبْكَبَ فإنك تقول فيهما: لَمَّ وكَبَّ، فلو لم يَصِحَّ المعنى بسقوطِه نحو: سِمْسِم، قال: فلا خلاف في أصالةِ الجميع.

قوله: { مِّنْ حَمَإٍ } فيه وجهان، أحدهما: أنه في محلِّ جرّ صفةً لصَلْصال، فيتعلَّقُ بمحذوف. والثاني: أنه بدلٌ من " صَلْصال " بإعادة الجارِّ.

والحَمَأُ: الطينُ الأسودُ المُنْتِنُ. قال الليث: " واحدُه حَمَأة بتحريك العين " ، جعله اسمَ جنسٍ، وقد غَلِط في ذلك؛ فإنَّ أهلَ اللغة قالوا: لا يُقال إلا " حَمْأة " بالإِسكان، ولا يُعْرَفُ التحريكُ، نصَّ عليه أبو عبيدة وجماعة، وأنشدوا لأبي الأسود:
2939- يجيءُ بِمِلْئِها طَوْراً وطَوْراً   يَجِيءُ بِحَمْأَةٍ وقليلِ ماءِ
فلا تكون " الحَمْأَةُ " واحدةَ " الحَمَأ " لاختلاف الوزنين.

والمَسْنُون: المَصْبوبُ مِنْ قولهم: سَنَنْتُ الشرابَ كأنَّه لرطوبتِهِ جُعِل مَصْبوباً كغيره من المائعات، فكأنَّ المعنى: أَفْرغ صورة إنسانٍ كما تُفْرَغُ الجواهرُ المُذابة. قال الزمخشري: " وحَقُّ مَسْنُون بمعنى مُصَوَّر أن يكون صفةً لصَلْصال، كأنه أًَفْرغ الحَمَأَ فَصَوَّر منه تمثالَ شخصٍ ". قلت: يعني أنه يصيرُ التقدير: مِنْ صَلْصالٍِ مُصَوَّر، ولكن يلزم تقديمُ الوصفِ المؤوَّلِ على الصريح إذا جَعَلْنَا { مِّنْ حَمَإٍ } صفةً لصَلْصال، أمَّا إذا جَعَلْنَاه بدلاً منه فلا. وقيل: مَسْنُون مُصَوَّر، مِنْ سُنَّةِ الوجهِ وهي صورتُه. قال الشاعر:
2940- تُريكَ سُنَّة وَجْهٍ غيرَ مُقْرِفَةٍ   .......................
وقال الزمخشري: " مِنْ سَنَنْتُ الحجرَ بالحجر: إذا حَكَكْتُه به, فالذي يَسِيل بينهما " سَنينٌ " ولا يكون إلا مُنْتِناً ". وقيل: المَسْنُون: المنسوبُ إليه، والمعنى: يُنْسَبُ إليه ذُرِّيَّةً، وكـأن هذا القائلَ أخذه مِنَ الواقع. وقيل: هو من أسِن الماءُ إذا تَغَيَّر، وهذا غَلطٌ لاختلافِ المادتين.