الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ }

{ قَالَ فَإِنَّهَا } أي: الأرض المقدسة { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } أي: بسبب أقوالهم هذه وأفعالهم، لا يدخلونها ولا يملكونها، ممن قال هذه المقالة أو رضيها أحد، فالتحريم تحريم منعٍ لا تحريم تعبد { أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ } أي: يترددون في البرية متحيرين في الأرض حتى يهلكوا كلّهم، و (التيه) المفازة التي يتيه فيها سالكها فيضلّ عن وجه مقصده { فَلاَ تَأْسَ } أي: تحزن { عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } أي: الخارجين من قيد الطاعات.

قال العلامة البقاعيّ: ثم بعد هلاكهم أدخلها بنيهم الذين ولدوا في التيه. وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت السورة على طلب الوفاء بها، وافتتحت بها، وصرح بأخذها عليهم في قوله:وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ... } [المائدة: 12] الآيات، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يفعلونه معه، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق، وترغيب لمن أطاع منهم، وترهيب لمن عصى. ومات في تلك الأربعين، كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة، وكان الغمام يظلهم من حرّ الشمس، ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء عليهم، وغير هذا من النعم. لأن المنع بالتيه كان تأديباً لهم، لا غضب؛ إذ أنهم تابوا.

ثم ساق البقاعيّ - رحمه الله - شرح هذه القصة من التوراة التي بين أيديهم بالحرف، ونحن نأتي على ملخصها تأثراً له، فنقول:

جاء في سفر (العدد) في الفصل الثالث عشر: إن شعب بني إسرائيل لمّا ارتحلوا من حَصِيروت ونزلوا ببرّية فاران، كلم الرب موسى بأن يبعث رجالاً يجسّون أرض كنعان، من كل سبط رجلاً واحداً. وكلهم يكونون من رؤساء بني إسرائيل؛ فأرسلهم موسى وأمرهم أن ينظروا إلى الأرض، أجيدة أم رديئة؟ وإلى أهلها، أشديدون أم ضعفاء؟ قليلون أم كثيرون؟ وأن يوافوه بشيء من ثمرها. فساروا واجتسّوا الأرض من برية صِينَ إلى رَحُوبَ عند مدخل حماة، ثم رجعوا بعد أربعين يوماً. وكان موسى وقومه في برية فاران في قادش، فأروهم ثمر الأرض، وقصّوا عليهم ما شاهدوه من جودة الأرض، وأنها تدرّ لبناً وعسلاً، ومن شدة أهلها وقوتهم وتحصن مدنهم؛ فاضطرب قوم موسى. فأخذ كالبُ - أحد النقباء - يسكتهم عن موسى ويقول: نصعد ونرث الأرض فإنا قادرون عليها، وخالفه بقية النقباء وقالوا: لا نقدر أن نصعد إليهم لأنهم أشدّ منّا. وهوّلوا على بني إسرائيل الأمر وقالوا: شاهدنا أناساً طوال القامات، سيما بني عَناقَ، فصرنا في عيوننا كالجراد، وكذلك كنا في عيونهم. فعند ذلك ضجّ قوم موسى ورفعوا أصواتهم وبكوا وقالوا: ليتنا متنا في أرض مصر أو في هذه البرية، ولا تكون نساؤنا وأطفالنا غنيمة للجبابرة، وخير لنا أن نرجع إلى مصر.

السابقالتالي
2 3 4