الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً }

ونلحظ هنا أن الحق - تبارك وتعالى - عند إيجاد القُوت لمريم جاء بالماء أولاً، فقال:قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } [مريم: 24]، ثم أتى بالطعام فقال:وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } [مريم: 25] لأن الماء أوْلى من الطعام في احتياج الإنسان، أما عند الأمر بالانتفاع قال: { فَكُلِي وَٱشْرَبِي.. } [مريم: 26] فبدأ بالطعام قبل الشراب، لماذا؟ لأن الإنسان عادةً يأكل أولاً، ثم يشرب، فالماء مع أهميته، إلا أنه يأتي في العادة بعد الطعام، فسبحان مَنْ هذا كلامه. وقوله: { وَقَرِّي عَيْناً.. } [مريم: 26] بعد أن وفَّر لها الحق سبحانه الطعام والشراب الذي هو قِوَام المادة، وبه يتم استبقاء الحياة، لكن بعد الطعام والشراب يبقى لديها حُزْن عميق وألم وحَيْرة مِمَّا هي فيه لذلك يعطيها ربها تبارك وتعالى بعد القوت الذي هو قوام المادة يعطيها السكينة والطمأنينة ويُخفِّف عنها ألم النفس وحَيْرة الفؤاد. { وَقَرِّي عَيْناً.. } [مريم: 26] قرّي: أي: اسكني. وهذا التعبير عند العرب كناية عن السرور، ومنه قوله تعالى على لسان امرأة فرعون:قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ.. } [القصص: 9]. والعرب تعبر بِقُرَّة العين وسكونها عن السرور لأن سكون العين على مَرأَىً واحد لا تتحول عنه دليلاً على أن العين صادفت مرأى جميلاً تسعد به وتُسَرُّ فلا يُغني عنه مَرأْىً آخر، فتظل ساكنة عليه لا تتحرك عنه. وقد يستعمل هذه التعبير في المقابل أي: في الشر والدعاء على إنسان وتمني الشر له، كالمرأة التي دخلتْ على أحد الخلفاء فنهرَها فقالت له: أتمَّ الله عليك نعمته وأقرَّ عينك. فظنَّ الحضور أنها تدعو له، لكنه فَطِن لمرادها، فقال لجلسائه: ما فهمتم ما تقول، إنها تقصد أتمَّ الله عليك نعمته أي: أزالها، أما سمعتم قول الشاعر:
إذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقْصُه   ترقَّبْ زَوَالاً إذَا قِيلَ تَمْ
ذلك لأن الإنسان بطبيعته ابن أغيار، لا يثبت على حال، فإذا ما وصل إلى القمة وتمتْ له النعمة، وهو ابن أغيار فلا بُدَّ أنْ يتحوَّل عنها. وقولها: أقرَّ الله عينك، أي: أسْكَنَها بالعمى. فقوله تعالى لمريم: { وَقَرِّي عَيْناً.. } [مريم: 26] أي: كوني سعيدة باصطفاء الله لك مسرورة بما أعطاك، فما تهتمين به وتحزنين هو عَيْن النعمة التي ليستْ لأحد غيرك من نساء العالمين. ثم يقول تعالى: { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } [مريم: 26]. وهنا يتولَّى الحق سبحانه وتعالى الدفاع عن مريم وتبرير موقفها الذي لا تجد له هي مبرراً في أعراف الناس، فَمنْ يلتمس عُذْراً لامرأة تحمل وتلد دون أن يكون لها زوج؟ ومهما قالت فلن تُصدَّق ولن تسْلَم من ألسنة القوم وتجريحهم.

السابقالتالي
2