الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }

تميَّز العربُ قديماً بمَلَكة عربية تتذوَّق اللغة وتجيد أساليبها وفنونها، بدليل أنهم جعلوا للكلمة مؤتمرات وأسواقاً، ففي حين كانت البلاد الأخرى تقيم المعارض والأسواق لترويج بضاعتهم، لم يكُنْ عند العرب بضاعة غير الكلام والفصاحة، فجعلوا لها سوقاً ينشد فيها أجود أشعارهم ثم يختارون أفضله، ويُعلقونه على أستار الكعبة، وهو أشرف مكان على الأرض، وهذا أمر لم يحدث في أي أمة أخرى. لذلك اختار الحق سبحانه أمة العرب لتتلقى منهجه، وتبلغ دعوته سبحانه إلى خَلْقه ونزل عليها القرآن لأنها الأمة الوحيدة التي ستفهم لغته وتتذوقها. إذن: جاء القرآن على أمة لها نبوغٌ في اللغة والبيان لتكون مجالاً للتحدي، وحين تعجز أمام تحدِّي القرآن فعَجْز غيرها من باب أَوْلَى، وأيضاً فلم يجعل الله لهم تقدُّماً في شيء غير تقدمهم اللغوي والبياني لأن مفتاح الدين ومعجزة الرسالة ستكون هي القرآن. ولو كانت هذه الأمة أمةَ تقدُّم وحضارة في أيِّ مجال من المجالات غير اللغة لقالوا عن الإسلام ثورة حضارية، لا ليست أمة حضارية بل أمة أمية ورسولها أيضاً أُمِّي. ومن هنا كانت الأمية ميْزةً وشرفاً لرسول الله، لكنها ليستْ شرفاً فينا نحن لأنَّ أمية رسول الله تعني أنه لم تدخل عليه معلومة من البشر، وإنما كلّ معلوماته من الله، فمَنْ إذن ربَّاهُ، ومَنْ أدَّبه، ومَنْ علّمه؟ الله. فإذا كانت الأمة أُميّة، ورسولها أمياً، فهذا دليلٌ على أن كلَّ منافذ الخير في هذه الأمة ليستْ من عند البشر. وأيضاً تميزتْ هذه الأمة بأنها أمة ليس لها وطن، فالعربي موطنه خيمته يضعها حيث وُجد الماء والعشب ويحملها على بعيره إلى أيِّ مكان آخر حين يجفّ الماء أو ينتهي الكلأ، ليس له وطن ولا بناء يعزّ عليه أن يفارقه، فبيته على ظهر جمله، لذلك قال تعالى:مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ.. } [النحل 80]. شيء آخر، وهو الأهمّ أن العرب كانوا دائماً في محلِّ قتال، وتظل الحربُ دائرةً بين القبائل إلى أربعين سنة، هذه الحروب جعلتهم كلهم أهل خبرة في فنون الحروب والقتال لذلك ساعة احتاج رسولُ الله إلى جنود لنشر دعوته لم يُدرِّب أحداً على القتال، إنما وجد جنوداً جاهزين على أُهْبة الاستعداد للقتال، لذلك لم يكُنْ هناك مدارس حربية ولا معسكرات للتدريب. فإذا أخذنا في الاعتبار أن العربي لم يكُنْ له وطن يرتبط به، وأنه ذو قدرة وكفاءة في فنون القتال، علماً أنه من السهل تكوين الجيش، ومن السهل إرسال جماعة هنا وجماعة هناك يحملون راية الإسلام، وقد أرسلهم رسول الله بالفعل إلى فارس وإلى الروم وإلى الحبشة.. إلخ فسَهُلَ ذلك عليهم. لذلك لم يكُنْ لرسول الله جيشٌ مُعَدٌّ وموقوف للقتال، لأنه ليس في حاجة إلى هذا الجيش، فإنْ أراد القتال نادى فقط حيَّ على الجهاد فيجتمع عليه الصحابة خاصة الشباب منهم يتسابقون إلى الخروج مع رسول الله، لدرجة أن رسول الله كان يختار منهم فيقول: هذا يخرج وهذا لا يخرج، فكان الذي لا يقع عليه اختيار رسول الله يغضب وربما بكى لأنه لم يخرج للجهاد مع رسول الله.

السابقالتالي
2 3