الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } قال المهايميّ: واذكر لتمثيل قصة المار على القرية، في الإخراج من الظلمات إلى النور، بالإحياء، قصة إبراهيم.

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } إنما سأل ذلك ليصير علمه عياناً { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } أي: بلى آمنت ولكن سألت لأزداد بصيرة وسكون قلب برؤية الإحياء، فوق سكونه بالوحي. فإنّ تظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين. وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن شاكاً في إحياء الموتى قط. وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أُخْبِرتَ عَنْهُ. ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " ليس الخبر كالمعاينة " وحكى ابن جرير عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك لأنه شك في قدرة الله. واستدلوا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من قوله: " نحن أحق بالشك من إبراهيم " وبما روي عن ابن عباس أنه قال: ما في القرآن عندي آية أرجى منها. إذ رضي الله من إبراهيم قوله: { بَلَىٰ }. قال: فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان. أخرجه عنه الحاكم في المستدرك وصححه. ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له.

قال ابن عطية: وهو عندي مردود. يعني قول هذه الطائفة. ثم قال: وأما قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " نحن أحق بالشك من إبراهيم " ، فمعناه: أنه لو كان شاكّاً لكنا نحن أحق به. ونحن لا نشك، فإبراهيم أحرى ألا يشك. فالحديث مبنيّ على نفي الشك عن إبراهيم. وأطال ابن عطية البحث في هذا. وأطاب.

قال القرطبي: ولا يجوز على الأنبياء عليهم السلام مثل هذا الشك. وقد أخبر الله سبحانه أن أصفياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال:إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [الإسراء: 65]. وقال اللعين:إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ص: 83]. وإذا لم تكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم! وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفرقها، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزقها. فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين.

وقال الناصر في الانتصاف: الأوْلى في هذه الآية أن يذكر فيها المختار في تفسيرها من المباحث الممتحنة بالفكر المحرر، والنكت المفصحة بالرأي المخمّر، فنقول: أما سؤال الخليل عليه السلام بقوله له: { كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } ، فليس عن شك، والعياذ بالله، في قدرة الله على الإحياء. ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء، ولا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها. فإنما هي طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة { كَيْفَ } وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا السؤال أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس؟ فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ولكنه سأل عن كيفية حكمه، لا ثبوته، ولو كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخاطر فَيُطَرِّق إلى إبراهيم شكا من هذه الآية، وقد قطع النبيّ عليه السلام دابر هذا الوهم بقوله:

السابقالتالي
2 3