الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

وقولُه تعالى: { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ }: إلى قوله: " كَمَثَلِ حَبة " كقوله:مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ... كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ } [البقرة: 261] في جميعِ التقاديرِ فليُراجَعْ. وقرأ الجحدريَّ " كمثلِ حبةٍ " بالحاءِ المهملة والباءِ.

قوله: { ٱبْتِغَآءَ } فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجلِه، وشروطُ النصبِ متوفرةٌ. والثاني: أنه حالٌ، و " تثبيتاً " عطفٌ عليه بالاعتبارين: أي لأجلِ الابتغاء والتثبيتِ، أو مبتغين مُثَبِّتِين. ومنع ابنُ عطية أن يكونَ " ابتغاء " مفعولاً من أجلِه، قال: " لأنه عَطَفَ عليه " تثبيتاً " ، وتثبيتاً لا يَصِحَّ أن يكونَ مفعولاً من أجلِه، لأنَّ الإِنفاقَ لا يكونُ لأجلِ التثبيتِ، وحَكَى عن مكي كونه مفعولا من أجلِه، قال: " وهو مردودٌ بما بَيَّنَّاه ".

وهذا الذي رَدَّه لا بُدَّ فيه من تفصيلٍ، وذلك أنَّ قولَه: " وتثبيتاً " إمَّا أنْ يُجْعَلَ مصدراً متعدياً أو قاصراً، فإن كان قاصراً، أو متعدياً وقَدَّرْنا المفعولَ هكذا: " وتثبيتاً من أنفسهم الثوابَ على تلك النفقة " ، فيكونُ تثبيتُ الثواب وتحصيلُه من اللهِ حاملاً لهم على النفقةِ، وحينئذٍ يَصحُّ أَنْ يكونَ " تثبيتاً " مفعولاً من أجلِه، وإنْ قَدَّرْنا المفعولَ غيرَ ذلك، أي: وتثبيتاً من أنفسِهم أعمالَهم بإخلاصِ النية، أو جَعَلْنَا " مِنْ أنفسهم " هو المفعول في المعنى، وأنَّ " مِنْ " بمَعْنَى اللام أي: لأنفسهم، كما تقولُ: " فَعَلْتُه كسراً مِنْ شهوتي " فلا يتضحُ فيه أن يكون مفعولاً من أجلِه.

وأبو البقاء قد قَدَّر المفعولَ المحذوفَ " أعمالَهم بإخلاصِ النيةِ " ، وجَوَّز أيضاً أن يكونَ " مِنْ أنفسهم " مفعولاً، وأن [تكونَ] " مِنْ " بمعنى اللام، وكان قَدَّم أولاً أنه يجوزُ فيهما المفعولُ من أجلِه والحالية، وهو غيرُ واضحٍ كما تقدَّم.

وتلخَّص أنَّ في " من أنفسهم " قولين، أحدُهما: أنه مفعولٌ بالتجوُّز في الحرفِ، والثاني: أنه صفةٌ لـ " تثبيتاً " ، فهو متعلِّقٌ بمحذوفٍ، وتلخَّص أيضاً أن التثبيت يجوزُ أن يكونَ متعدّياً، وكيف يُقَدَّر مفعولُه، وأَن يكونَ قاصراً.

فإن قيل: " تثبيت " مصدرَ ثَبَّت وثَبَّتَ متعدٍ، فكيفَ يكونُ مصدرُه لازماً. فالجوابُ أنَّ التثبيتَ مصدرُ تَثَبَّتَ فهو واقعٌ موقعَ التثبُّتِ، والمصادرُ تنوبُ عن بعضها. قال تعالى:وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [المزمل: 8] والأصلُ: " تبتُّلا " ويؤيِّد ذلك قراءةُ مَنْ قرأ: " وَتَثَبُّتاً " ، وإلى هذا نحا أبو البقاء. قال الشيخ: " ورُدَّ هذا القولُ بأنَّ ذلكَ لا يكونُ إلا مع الإِفصاح بالفعلِ المتقدِّم على المصدر، نحوُ الآيةِ، وأمَّا أَنْ يُؤْتى بالمصدرِ من غيرِ نيابةٍ على فعلٍ مذكورٍ فلا يُحْمَل على غيرِ فعلِه الذي هو له في الأصل " ثم قال: " والذي نقول: إنَّ ثَبَتَ - يعني مخففاً - فعلٌ لازمٌ معناه تمكَّن ورَسَخَ، وثَبَّت معدَّى بالتضعيف، ومعناه مَكَّن وحَقَّق.

السابقالتالي
2 3 4