الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }

وما بعده مُفسّر إلى قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ } يعني: الحواريين وأتباعهم { رَأْفَةً } وقد ذكرنا فيما مضى أنها أبلغ الرحمة، { وَرَهْبَانِيَّةً } منصوب بفعل مُضْمَر يُفسّره ما بعده، تقديره: ابتدعوها من قِبَل أنفسهم؛ تقرباً إلينا، ابتدعوها ونذروها.

{ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي: ما فرضناها وأوجبناها عليهم، { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ } استثناء منقطع، أي: [ولكنهم] ابتدعوها ابتغاء رضوان الله.

قال ابن مسعود: كنتُ رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: يا ابن أم عبد! هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل هذه الرهبانية؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام، يعملون بمعاصي الله، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم، فهُزم أهل الإيمان ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلا القليل، فقالوا: إن [ظهرنا لهؤلاء] أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى - يعنون: محمداً صلى الله عليه وسلم -، فتفرقوا في غِيران الجبال وأحدثوا الرهبانية، فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر، ثم تلا هذه الآية: { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا }... الآية، { فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ } أي: الذين ثبتوا عليها { أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أم عبد: تدري ما رهبانية أمَّتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التّلاع.

قوله تعالى: { فَمَا رَعَوْهَا } يعني: جميعهم { حَقَّ رِعَايَتِهَا } بل فرطوا فيما وجب عليهم بالتزامهم وإن لم يكن واجباً بأصل الشرع، كما لو نذر الواحد منا في شريعتنا فعل عبادة لا تلزمه، فإنه يصير لازماً له بالتزامه ونذره، كذلك أولئك نذروا والتزموا فعل الرهبانية، فلما ضيّعوا وفرّطوا عاب الله عليهم ذلك.

وقيل: إن منهم من بدّل وغَيَّر الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام.

وقيل: الإشارة بقوله: " فما رعوها " إلى الأتباع لا إلى المتبوعين الذين كانوا الأصل في الرهبانية. وهذا المعنى منقول عن ابن عباس.

{ فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } ثبتوا على إيمانهم، وتمسكوا بقوانين دينهم وشريعة نبيهم، إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم، { أَجْرَهُمْ } ثواب إيمانهم وطاعتهم، { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } خارجون عن الطاعة.

أخرج الحاكم في صحيحه من حديث ابن مسعود قال: دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اختلف من كان قبلي على ثنتين وسبعين فرقة، نجا منها ثلاث وهلك سائرهم، فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين [الله ودين عيسى بن مريم حتى قتلوا. وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم، فدعوهم إلى دين الله ودين] عيسى، فأخذوهم فقتلوهم وقطعوهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك، ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى، فساحوا في البلاد وترهّبوا، وهم الذين قال الله عز وجل { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ... } الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من آمن بي وصدّقني واتّبعني، فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يتّبعني فأولئك هم الهالكون.