الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }

عطف علىوإذ قال إبراهيم } الزخرف 26 أي أعلن تلك المقالة في قومه معاصريه وجعلها كلمة باقية في عقبه ينقلونها إلى معاصريهم من الأمم. إذ أوصى بها بنيه وأن يوصوا بَنِيهم بها، قال تعالى في سورة البقرة 131 ـــ 132إذ قال لَه ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بَنِيَّ إن الله اصطفى لكم الدّين فلا تموتُنّ إلاّ وأنتم مسلمون } فبتلك الوصية أبقى إبراهيم توحيد الله بالإلـٰهية والعبادة في عقبه يبثونه في النّاس. ولذلك قال يوسف لصاحبيه في السجنيا صاحبيَ السجن أأربْاب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } يوسف 39 وقال لهماإنّي تركتُ ملة قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعتُ ملة آبائِيَ إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } يوسف 37 إلى قولهولكن أكثر النّاس لا يعلمون } يوسف 40.فضمير الرفع في { جعلها } عائد إلى إبراهيم وهو الظاهر من السياق والمناسب لقوله { لعلهم يرجعون } ولأنه لم يتقدم اسم الجلالة ليعود عليه ضمير { جعلها }. وحكى في «الكشاف» إنه قيل الضمير عائد إلى الله وجزم به القرطبي وهو ظاهر كلام أبي بكر بن العربي.والضمير المنصوب في قوله { وجعلها } عائد إلى الكلام المتقدم. وأنث الضمير لتأويل الكلام بالكلمة نظراً لوقوع مفعوله الثاني لفظ { كلمة } لأن الكلام يطلق عليه { كلمة } كقوله تعالى في سورة المؤمنين 100إنها كلمةٌ هو قائلها } أي قولَ الكافررَبِّ ارجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تَركْتُ } المؤمنون 99، 100. وقال تعالىكبرت كلمةٌ تخرج من أفواههم } الكهف 5 وهي قولهماتّخذ الله ولداً } البقرة 116 وقد قال تعالىووصى بها إبراهيم بنيه } البقرة 132، أي بقَولهأسلمت لربّ العالمين } البقرة 131 فَأعاد عليها ضمير التأنيث على تأويل الكلمة.واعلم أنه إنّما يقال للكلام كلمة إذا كان كلاماً سائراً على الألسنة متمثلاً به، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم " أصدق كلمة قالها شاعر كلمةُ لبيد ألاَ كلُ شيء ما خلا الله باطل " ، أو كان الكلام مجعولاً شعاراً كقولهم لا إلـٰه إلا الله كلمة الإسلام، وقال تعالىولقد قالوا كلمة الكفر } التوبة 74».فالمعنى جعَل إبراهيم قولهإنني براءٌ مما تعبدون إلا الذي فطرني } الزخرف 26، 27 شعاراً لعقبه، أي جعلها هي وما يرادفها قولاً باقياً في عقبه على مرّ الزمان فلا يخلو عقب إبراهيم من موحدين لله نابذين للأصنام. وأشعر حرف الظرفية بأن هاته الكلمة لم تنقطع بين عقب إبراهيم دون أن تعمّ العقب، فإن أريد بالعقب مجموعُ أعقابه فإن كلمة التوحيد لم تنقطع من اليهود وانقطعت من العرب بعد أن تقلدوا عبادة الأصنام إلاّ من تَهوّد منهم أو تنصَّر، وإن أريد مِن كُل عقب فإن العرب لم يخلو من قائم بكلمة التوحيد مثل المتنَصِّرين منهم كالقبائل المتنصرة وورقة بن نوفل، ومثل المتحنفين كزيد بن عَمرو بن نُفيل، وأُمية بن أبي الصلت.

السابقالتالي
2