الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

الغالب في القرآن أن الذين آمنوا لقب للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم ولكن لما وقع { يا أيها الذين آمنوا } هنا عقب قولهفآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } الحديد 27، أي من الذين اتبعوا عيسى عليه السلام، احتمل قوله { يا أيها الذين آمنوا } أن يكون مستعملاً استعماله اللَّقبي أعني كونه كالعلَم بالغلبة على مؤمني ملّة الإسلام. واحتمل أن يكون قد استُعمل استعمالَه اللُّغوي الأعَمَّ، أعني من حصل منه إيمان، وهو هنا من آمن بعيسى. والأظهر أن هذين الاحتمالين مقصودَانِ ليأخذ خُلص النصارى من هذا الكلام حظهم وهو دعوتهم إلى الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ليستكملوا ما سبق من اتباعهم عيسى فيكون الخطاب موجهاً إلى الموجودين ممن آمنوا بعيسى، أي يا أيها الذين آمنوا إيماناً خالصاً بشريعة عيسى اتقوا الله واخشَوْا عقابه واتركوا العصبية والحسد وسوء النظر وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأما احتمال أن يراد بالذين آمنوا الإِطلاق اللقبي فيأخذَ منه المؤمنون من أهل الملة الإِسلامية بشارةً بأنهم لا يقلّ أجرهم عن أجر مؤمني أهل الكتاب لأنهم لما آمنوا بالرسل السابقين أعطاهم الله أجر مؤمني أهل مِللهم، ويكون قوله { وآمنوا } مستعملاً في الدوام على الإِيمان كقولهيا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } في سورة النساء 136، ويكون إقحام الأمر بالتقوى في هذا الاحتمالِ قصداً لأن يحصل في الكلام أمر بشيء يتجدد ثم يُردفَ عليه أمر يفهم منه أن المراد به طلب الدوام وهذا من بديع نظم القرآن. ومعنى إيتاء المؤمنين من أهل ملة الإسلام كفلين من الأجر أن لهم مثل أجرَي من آمن من أهل الكتاب. ويشرح هذا حديث أبي موسى الأشعري عن النبي في صحيح البخاري الذي فيه " مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثَل رجل استأجر أَجراء يعملون له، فعملت اليهود إلى نصف النهار، وعملت النصارى من الظهر إلى العصر على قيراط، ثم عمل المسلمون من العصر إلى الغروب على قيراطين، قال فيه واستكمَلُوا أجر الفريقين كليهما " ، أي استكملوا مثل أجر الفريقين، أي أخذوا ضعف كل فريق. وتقوى الله تتعلق بالأعمال وبالاعتقاد، وبعلم الشريعة وقد استدل أصحابنا على وجوب الاجتهاد للمتأهل إليه بقوله تعالىفاتقوا الله ما استطعتم } التغابن 16. وقوله { اتقوا الله } أمر لهم بما هو وسيلة ومقدمة للمقصود وهو الأمر بقوله { وآمنوا برسوله }. ورتب على هذا الأمر ما هو جواب شرط محذوف وهو جملة { يؤتكم كفلين } الخ المجزوم في جواب الأمر، أي يؤتكم جزاءً في الآخرة وجزاء في الدنيا فجزاء الآخرة قوله { يؤتكم كفلين من رحمته } وقوله { ويغفر لكم } ، وجزاء الدنيا قوله { ويجعل لكم نوراً تمشون به }. والكِفل بكسر الكاف وسكون الفاء النصيب.

السابقالتالي
2