الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{ للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ } أي: تظهروا { مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ } من الأفعال الاختيارية باللسان أو الجوارح { أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ } قال أبو مسلم الأصفهاني: إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة:وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [البقرة: 283] ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقليّ فقال: { للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } ومعنى هذا الملك، أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه. ومن كان فاعلاً لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد أن يكون عالماً بها. إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به. فكأن الله تعالى احتج بخلقه السماوات والأرض، مع ما فيها من وجوه الإحكام والإتقان، على كونه تعالى عالماً بها محيطاً بأجزائها وجزئياتها.

قال الشعبيّ: إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه. بيّن أن له ملك السماوات والأرض، فيجازي على الكتمان والإظهار. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى: { وَإِن تُبْدُواْ... } الخ. نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها.

وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائيّ وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ } قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا " قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى:لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286] قال: " قد فعلت "رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } [البقرة: 286] قال: " قد فعلت "رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَٰـنَا } [البقرة: 286] قال: " قد فعلت ". وفي مسند عبد بن حميد والطبرانيّ: قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها. وصار الأمر إلى أن قضي الله تعالى أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت من القول والعمل.

أقول إن ما جاء من أن الآية هالت من هالت من الصحابة فإنما جاءه من عمومها ومن قوله: { يُحَاسِبْكُمْ } إذ حمله على حساب المؤاخذة، فأما عمومها فنظمها ظاهر فيه. إلا أنها تتناول الشهادة وكتمانها أولاً وبالذات. وغيرها ثانيا وبالعرض. وأما حمل الحساب على المؤاخذة والانتقام فإن كان عرفياً أو لغوياً فالإخفاء حينئذ مراد به إخفاء متفق على حظره.

السابقالتالي
2