الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً }

قوله تعالى: { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ.. } [الكهف: 29] أي: قُلِ الحق جاء من ربكم، واختار كلمة الرب ولم يَقُلْ من الله، لأن الكل معتقد أن الرب هو الذي خلق، كما في قوله تعالى:وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } [الزخرف: 87]. وقوله:وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [لقمان: 25]. فمعنى: { مِن رَّبِّكُمْ.. } [الكهف: 29] أي: بإقراركم أنتم، فالذي خلقكم وربّاكم وتعهدكم هو الذي نزَّل لكم هذا الحق و { رَّبِّكُمْ.. } [الكهف: 29] أي: ليس ربي وحدي، بل ربكم وربّ الناس جميعاً. والحق: هو الشيء الثابت، وما دام من الله فلن يُغيِّره أحد لأن الذي يتغير كلامه هو الذي يقضي شيئاً ويجهل شيئاً مُقبلاً، وبعد ذلك يُعدِّل، فالحق من الله لأنه سبحانه لا يَخْفَى عليه شيء ولا يَعْزُب عن علمه شيء، لذلك لا استدراك على حُكْم من أحكامه من أحد من خلقه. فالربوبية عطاء، فربك الذي خلقك وأمدَّك بالنعم، وهو الذي يُربّيك كما يُربِّي الوالد ولده لذلك لم يعترض على الربوبية أحد، أما الألوهية فمطلوبها تكليف: افعل كذا، ولا تفعل كذا، فخاطبهم بالربوبية التي فيها مصلحتهم، ولم يخاطبهم بالألوهية التي تُقيِّد اختياراتهم والإنسان بطبعه لا يميل إلى ما يُقيّد اختياراته لذلك يلجأون إلى عبادة آلهة أخرى لأنها ليس لها مطلوبات. فالذي يعبد الشمس أو الصنم أو غيره: بماذا أمرك معبودك؟ وعَمَّا نهاك؟ فما العبادة إلا طاعة عابد لمعبود، إذن: فلهم أن يقولوا: نِعْمَ هذا الإله، ونِعْمَ هذا الدين لأنه يتركني بحريتي أفعل ما أريد. لذلك نجد الذين يدَّعُون ألوهية، أو يدعون نُبوّة دائماً يميلون إلى تخفيف المناهج لأنهم يعلمون أن المناهج السماوية تصعُب على الناس لأن فيها حَجْراً على حرية حركتهم وحرية اختياراتهم، فلما ادَّعى مسيلمة النبوة رأى الناس تتبرم من الزكاة فأسقطها عنهم، وكذلك لما ادعتّ سجاح النبوة خففتْ الصلاة، وإلا، فكيف سيجمعون الناس من حولهم؟ وما أشبه مُدَّعي الأمس بمدعي اليوم الذين يبيعون الدين بعَرَضٍ من الدنيا، فيُفْتون الناس بتحليل ما حرَّم الله، مثل الاختلاط وغيره من القضايا حتى هان أمر الدين على الناس. والدين وإنْ كان فطرياً في النفس الإنسانية إلا أن الإنسان يميل إلى مَنْ يُخفِّف عنه، وتعجب حين ترى بعض المثقفين وحملة الشهادات يذهبون إلى الدجالين ويُصدِّقونهم، وترى الواحد منهم يُكذِّب نفسه أنه على دين يريحه، ويفعل في ظله ما يريد. إذن: ما دُمْتم مؤمنين بربوبية خلق وربوبية إمداد وإنعام، فعليكم أن تؤمنوا بما جاء من ربكم، كما نقول في المثل: اللي يأكل لقمتي يسمع كلمتي، ومع ذلك ورغم فضل الله ونعمه عليهم قُلْ لهم: لا جبرَ في الإيمان { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6