الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِى ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

اعلم أنه تعالى لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال: { وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلأَرْضَ }. واعلم أن الاستدلال بخلقه الأرض وأحوالها من وجوه: الأول: أن الشيء إذا تزايد حجمه ومقداره صار كأن ذلك الحجم وذلك المقدار يمتد فقوله: { وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلأَرْضَ } إشارة إلى أن الله سبحانه هو الذي جعل الأرض مختصة بذلك المقدار المعين الحاصل له لا أزيد ولا أنقص والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقداراً مما هو الآن وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه فاختصاصه بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص وتقدير. الثاني: قال أبو بكر الأصم المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله: { وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلأَرْضَ } يشعر بأنه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً لا يقع البصر على منتهاه، لأن الأرض لو كانت أصغر حجماً مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به. والثالث: قال قوم كانت الأرض مدورة فمدها ودحا من مكة من تحت البيت فذهبت كذا وكذا. وقال آخرون: كانت مجتمعة عند البيت المقدس فقال لها: اذهبي كذا وكذا. اعلم أن هذا القول إنما يتم إذا قلنا الأرض مسطحة لا كرة وأصحاب هذا القول احتجوا عليه بقوله:وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا } [النازعات: 30] وهذا القول مشكل من وجهين. الأول: أنه ثبت بالدلائل أن الأرض كرة فكيف يمكن المكابرة فيه؟ فإن قالوا: وقوله: { مَدَّ ٱلأَرْضَ } ينافي كونها كرة فكيف يمكن مدها؟ قلنا: لا نسلم أن الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح، والتفاوت الحاصل بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله ألا ترى أنه قال:وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } [النبأ: 7] فجعلها أوتاداً مع أن العالم من الناس يستقرون عليها فكذلك ههنا. والثاني: أن هذه الآية إنما ذكرت ليستدل بها على وجود الصانع، والشرط فيه أن يكون ذلك أمراً مشاهداً معلوماً حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع، فثبت أن التأويل الحق هو ما ذكرناه. والنوع الثاني: من الدلائل الاستدلال بأحوال الجبال وإليه الإشارة بقوله: { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } من فوقها ثابتة باقية في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها يقال: رسا هذا الوتد وأرسيته والمراد ما ذكرنا. واعلم أن الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم من وجوه، الأول: أن طبيعة الأرض واحدة فحصول الجبل في بعض جوانبها دون البعض لا بد وأن يكون بتخليق القادر الحكيم. قالت الفلاسفة: هذه الجبال إنما تولدت لأن البحار كانت في هذا الجانب من العالم فكانت تتولد في البحر طيناً لزجاً.

السابقالتالي
2 3 4