الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } * { رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } * { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ }

قوله تعالى: { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } كذا قراءة العامة، وخَطُّ المصحف. وقرأ ابن مسعود «لَمْ يَكُنِ المُشْركونَ وأهْلُ الكِتابِ مُنْفَكِّينَ» وهذه قراءة على التفسير. قال ابن العربيّ: « وهي جائزة في مَعرِض البيان، لا في مَعْرض التلاوة فقد قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم في رواية الصحيح " فَطَلِّقُوهنّ لِقَبْل عِدّتهِن " [الطلاق: 1] وهو تفسير فإنّ التلاوة: هو ما كان في خطّ المصحف». قوله تعالى: { مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } يعني اليهود والنصارى. { وَٱلْمُشْرِكِينَ } في موضع جر عطفاً على «أهل الكتاب». قال ابن عباس: «أهلُ الكتابِ»: اليهود الذين كانوا بيثرِب، وهم قُرَيَظة والنَّضِير وبنو قَيْنُقاع. والمشركون: الذين كانوا بمكة وحولها، والمدينة والذين حولها وهم مشركو قريش. { مُنفَكِّينَ } أي منتهين عن كفرهم، مائلين عنه. { حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ } أي أتتهم البينة أي محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا، حتى تأتيهم البينة. فالانفكاك على هذا بمعنى الانتهاء. وقيل: { مُنفَكِّينَ } زائلين أي لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول. والعرب تقول: ما انفككتُ أفعل كذا: أي ما زلت. وما انفك فلان قائماً: أي ما زال قائماً. وأصل الفَكّ: الفتح ومنه فك الكتاب، وفَكُّ الخَلخال، وفك السالم. قال طَرَفة:
فآلَيتُ لا ينفَكُّ كَشْحِي بطانةً   لِعَضْبٍ رقيق الشَّفْرَتَيْنِ مُهَنَّدِ
وقال ذو الرمة:
حَرَاجِيجُ ما تَنْفكٌّ إلاَّ مُناخةً   على الخَسْفِ أَوْ نَرْمِي بهَا بَلداً قفرا
يريد: ما تنفك مناخة فزاد «إلاَّ». وقيل: «مُنفَكِّين»: بارحين أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا، حتى تأتيهُمُ البينةُ. وقال ابن كيسان: أي لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، حتى بُعِث فلما بُعث حسدوه وجحدوه. وهو كقوله:فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [البقرة: 89]. ولهذا قال: { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ }... الآية. وعلى هذا فقوله: { وَٱلْمُشْرِكِينَ } أي ما كانوا يسيئون القول في محمد صلى الله عليه وسلم، حتى بُعِث فإنهم كانوا يسمونه الأمين، حتى أتتهم البينة على لسانه، وبُعث إليهم، فحينئذٍ عادَوْه. وقال بعض اللغويين: { مُنفَكِّينَ }: هالكين من قولهم: أَنْفَكَ صَلاَ المرأةِ عند الولادة وهو أن ينفصل، فلا يلتئم فتهلك. المعنى: لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب. وقال قوم في المشركين: إنهم من أهل الكتاب فمن اليهود من قال: عُزيرٌ ابن الله. ومن النصارى من قال: عيسى هو الله. ومنهم من قال: هو ابنه. ومنهم من قال: ثالث ثلاثة. وقيل: أهل الكتاب كانوا مؤمنين، ثم كفروا بعد أنبيائهم. والمشركون وُلِدوا على الفِطرة، فكفروا حين بلغوا. فلهذا قال: { وَٱلْمُشْرِكِينَ }. وقيل: المشركون وصف أهل الكتاب أيضاً، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم، وتركوا التوحيد.

السابقالتالي
2