الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً }

استطراد لانتهاز الفرصة لوصف ضلال أهل الشرك وسفالة تفكيرهم، فهو عطف على جملةالذي له ملك السماوات والأرض } الفرقان 2 وما تلاها مما هو استدلال على انفراده تعالى بالإلهية، وأردفت بقولهوخلق كل شيء } الفرقان 2 الشامل لكون ما اتخذوه من الآلهة مخلوقات فكان ما تقدم مهيئاً للتعجيب من اتخاذ المشركين آلهة دون ذلك الإلٰه المنعوت بصفات الكمال والجلال. فالخبر غير مقصود به الإفادة بل هو للتعجيب من حالهم كيف قابلوا نعمة إنزال الفرقان بالجحد والطغيان وكيف أشركوا بالذي تلك صفاته آلهةً أخرى صفاتهم على الضد من صفات من أشركوهم به، وإلا فإن اتخاذ المشركين آلهة أمر معلوم لهم وللمؤمنين فلا يقصد إفادتهم لحكم الخبر. وبين قولهولم يتخذ ولداً } الفرقان 2 وقوله { واتخذوا من دونه آلهة } محسن الطباق. وضمير { اتخذوا } عائد إلى المشركين ولم يسبق لهم ذكر في الكلام وإنما هم معروفون في مثل هذا المقام وخاصة من قولهولم يكن له شريك في الملك } الفرقان 2. وجملة { لا يخلقون شيئاً } مقابلة جملةالذي له ملك السماوات والأرض } الفرقان 2. وجملة { وهم يخلقون } مقابلة جملةولم يتخذ ولداً } الفرقان 2 لأن ولد الخالق يجب أن يكون متولداً منه فلا يكون مخلوقاً. وجملة { ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً } مقابلة جملةولم يكن له شريك في الملك } الفرقان 2 لأن الشركة في الملك تقتضي الشركة في التصرف. وضمير { لأنفسهم } يجوز أن يعود إلى { آلهة } أي لا تقدر الأصنام ونحوها على ضر أنفسهم ولا على نفعهم. ويجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير { واتخذوا } أي لا تقدر الأصنام على نفع الذين عبدوهم ولا على ضرهم. واعلم أن { ضراً ولا نفعاً } هنا جرى مجرى المثل لقصد الإحاطة بالأحوال، فكأنه قيل لا يملكون التصرف بحال من الأحوال. وهذا نظير أن يقال شرقاً وغرباً، وليلاً ونهاراً. وبذلك يندفع ما يشكل في بادىء الرأي من وجه نفي قدرتهم على إضرار أنفسهم بأنه لا تتعلق إرادة أحد بضر نفسه، وبذلك أيضاً لا يتطلب وجه لتقديم الضر على النفع، لأن المقام يقتضي التسوية في تقديم أحد الأمرين، فالمتكلم مخير في ذلك والمخالفة بين الآيات في تقديم أحد الأمرين مجرد تفنّن. والمجرور في { لأنفسهم } متعلق بـ { يملكون }. والضَّر ــــ بفتح الضاد ــــ مصدر ضرَّه، إذا أصابه بمكروه. وقد تقدم نظيره في قوله تعالىقل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله } في سورة يونس 49. وجملة { ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً } مقابلة جملةوخلق كل شيء فقدره تقديراً } الفرقان 2 لأن أعظم مظاهر تقدير الخلق هو مظهر الحياة والموت، وذلك من المشاهدات. وأما قوله { ولا نشوراً } فهو تكميل لقرع المشركين نفاة البعث لأن نفي أن يكون الآلهة يملكون نشوراً يقتضي إثبات حقيقة النشور في نفس الأمر إذ الأكثر في كلام العرب أن نفي الشيء يقتضي تحقق ماهيته.

السابقالتالي
2