الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ } أرادوا بضمير المتكلم جنس البشر قاطبة لا أنفسهم أو معاصريهم فقط وبنفي إتيانها نفي وجودها بالكلية لا عدم حضورها مع تحقيقها في نفس الأمر، وإنما عبروا عنه بذلك لأنهم كانوا يوعدون بإتيانها، وقيل: لأن وجود الأمور الزمانية المستقبلة لا سيما أجزاء الزمان لا يكون إلا بالإتيان والحضور، وقيل: هو استبطاء لإتيانها الموعود بطريق الهزء والسخرية كقولهم:مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ } [سبأ: 29] / والأول أولى، والجملة قيل: معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة وجعلها حالية غير ظاهر.

{ قُلْ بَلَىٰ } رد لكلامهم وإثبات لما نفوه على معنى ليس الأمر إلا إتيانها، وقوله تعالى: { وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ } تأكيد له على أتم الوجوه وأكملها، وجاء القسم بالرب للإشارة إلى أن إتيانها من شؤون الربوبية، وأتى به مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ليدل على شدة القسم، وروى هارون كما قال ابن جني عن طليق قال: سمعت أشياخنا يقرؤون { ليأتينكم } بالياء التحتية وخرجت على أن الفاعل ضمير البعث لأن مقصودهم من نفي إتيان الساعة أنهم لا يبعثون، وقيل: الفاعل ضمير { ٱلسَّاعَةَ } على تأويلها باليوم أو الوقت. وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ لا يكون مثل هذا إلا في الشعر نحو:
ولا أرض أبقل إبقالها   
وقوله تعالى: { عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ } بدل من المقسم به على ما ذهب إليه الحوفي وأبو البقاء، وجوز أن يكون عطف بيان، وأجاز أبو البقاء أن يكون صفة له.

وتعقب بأنه صفة مشبهة وهي كما ذكره سيبويه في «الكتاب» - لا تتعرف بالإضافة إلى معرفة، والجمهور على أنها تتعرف بها ولذا ذهب جمع من الأجلة إلى أنه صفة ووصف سبحانه بإحاطة العلم إمداداً للتأكيد وتشديداً له إثر تشديد فإن عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وشدة ثباته واستقامته لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر وكلما كان المستشهد به أعلى كعباً وأبين فضلاً وأرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت وأرسخ، وخص هذا الوصف بالذكر من بين الأوصاف مع أن كل وصف يقتضي العظمة يتأتى به ذلك لما أن له تعلقاً خاصاً بالمقسم عليه فإنه أشهر أفراد الغيب في الخفاء ففيه مع رعاية التأكيد حسن الإقسام على منوال وثناياك أنها إغريض كأنه قيل: وربـي العالم بوقت قيامها لتأتينكم، وفيه إدماج أن لا كلام في ثبوتها.

وقال صاحب «الفرائد»: جىء بالوصف المذكور لأن إنكارهم البعث باعتبار أن الأجزاء المتفرقة المنتشرة يمتنع اجتماعها كما كانت يدل عليه قوله تعالى:قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ } [ق: 4] الآية، فالوصف بهذه الأوصاف رد لزعمهم الاستحالة وهو أن من كان علمه بهذه المثابة كيف يمتنع منه ذلك انتهى، واستحسنه الطيبـي، وقال في «البحر»: أتبع القسم بقوله تعالى: { عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ } وما بعده ليعلم أن إتيانها من الغيب الذي تفرد به عز وجل، وما ذكر أولاً أبعد مغزى، وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أن لا يبقى للمعاندين عذر ما أصلاً فإنهم كانوا يعرفون أمانته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن وصمة الكذب فضلاً عن اليمين الفاجرة وإنما لم يصدقوه عليه الصلاة والسلام مكابرة، وغفل صاحب «الفرائد» عن هذه الفائدة فقال: اقتضى المقام اليمين لأن من أنكر ما قيل له فالذي وجب بعد ذلك إذا أريد إعادة القول له أن يكون مقترناً باليمين وإلا كان خطأ بالنظر إلى علم المعاني وإن كان صحيحاً بالنظر إلى العربية والنحو وقد يغفل الأريب.

السابقالتالي
2 3 4